التنمُّر.. مشرط خفي

 

أمل اليافعية

لم تكن كأي فتاة في تلك المدرسة، بنيتها الصغيرة المُتناسقة مع عمرها، طولها الأوسط لمرحلتها الصفية، ساعة يدها الفضية بالعقارب الذهبية والأرقام العربية ما عدا الثانية عشرة المرصعة بحجر شبيه بالألماسة، تلك الساعة التي أهدتها إياها أمها حين رفضت أن ترتدي الساعة الرقمية الأسهل في قراءة الوقت لمِثل سنها.

تحب جعل شعرها الناعم أسفل حجابها الأبيض بحيث لا يظهر إلا منابته الأمامية، وتنجح في تثبيته بعد المحاولة الرابعة في كل مرة. رجاحة عقلها تجعلها تضع ذاك الحجاب الأزرق على حجابها حتى تصل من وإلى مدرستها دون وضوح شعرها، غير مُكترثةٍ لما يُقال عن تكبير نفسها قبل حينه، وهي تصفّده في جيب حقيبتها عند دخولها المدرسة وكأن شيئاً لما يُذكَر. حالمةٌ جداً وصفاء قلبها يجعلها هادئةَ الملامح حازمة الشخصية، وحين تجد السكينة في ذاتها تُقرر الابتسام والضحك مع زميلاتها بعفوية، وحين تجد صداً أو جفافاً فتلزم هدوءها مجدداً وتبتعد بخيالاتها لو أنها ولو كانت.

حين كانت تمشي في ذاك الممر الطويل الذي يفصل بين أبواب الصفوف والشرفة المحاذية للساحة الجانبية، بعد وصولها صباحاً برفقة زميلاتها في الحافلة، اللاتي انتشرن إلى صفوفهن يهرولن ليتسنى لهن اللحاق بأماكنهن في الطابور، قبل ثوانٍ من دق الجرس وهجر الممرات، خرجت فتاتان من دورة المياه التي تتوسط الممر مُقاطعاتٍ طريقها، كلاهما تضع حجابها على كتفيها مختالاتٍ بخصلاتهن وشعرهن المرتب بربطات ملونة وكبيرة، تتدلى من أيديهن أساور متلألئة وخواتم لامعة وقلادات بأحرف بارزة، وكانتا أكبر منها مرحلةً وأضخم بنيةً؛ ضحكت إحداهن مُشيرةً للأخرى لترى الحجاب الأزرق، لتضحك الأخرى وهي تلتف أمامها مواجهةً لها، معَلِّقةً أن "استايلها" المُعقّد لا يليق بهن، وكونها لا تتزين بالحُلِيّ كعلامة استنقاص ودليل فقر لا أكثر.

ابتسمت ذات الحجاب الأزرق دون الرد ومرَّت من جانبهما تتجاوزهن، ومع رنين الجرس ما أحسّت إلا بيد تلك الفتاة تمسك بالحجاب وتشدّه بقوةٍ أسقطتها أرضاً، وحين رفعت رأسها رأت حجابها يُحلّق باتجاه الشرفة نزولاً للساحة، والفتاتان تضحكان بكبرياء وكأنها قد جنت على نفسها لصمتها عنهن، وإذا بالمشرفة في بداية الممر تصيح بهن وتتوعد، لتنظر الفتاتان إلى ذات الحجاب الأبيض دون أزرقه أن تلزم الصمت لتفلتا من العقاب، وركضتا للدرج الجانبي مبتعدتين عنها، دون وعيّ منهما بأن مشرفةً أخرى تنتظر عند آخر العتبات لتقبض على المتأخرات لاسيما المخالفات! ووقفت ذات الحجاب الأبيض باسمةً لسخف الموقف وتكراره بين حينٍ وآخر، لتنفض لباسها وتتجه نحو الساحة الخلفية؛ حيث يفترّش حجابها الأزرق الأرض منتظراً انتشاله. وتمضي الأيام وتُعاد الحادثة باختلاف الفتيات مع غيرها، على حجاب أو لباس أو شخصية أو سلوك، لتكون عبرة أو عثرة لغيرها..

ذات الحجاب الأزرق تمثل الكثير من الفتيات الحالمات ذوات الذوق والخلق الذي يحين قبل بلوغهن سن الالتزام والحجاب والفرائض؛ حيث تشعر بمسؤوليتها اتجاه نفسها وعِظَم مكانتها وترتسم أمامها الكثير من الرؤى والأحلام وما قد يؤدي إلى تحقيق طموحها في المستقبل القادم؛ مستقبلها الذي يرتبط بعلاقاتها مع أسرتها، وزميلاتها، وصديقاتها، ومُعلماتها، وما تكتسبه منهن وما تستخلص من بعضهن وتبتعد عن بعضه الآخر، وعند تمكّنها من الموازنة بين هذه وتلك فتصقله وتشكّله بما يتوازى مع شخصيتها المُتفردة، لتكون بكل بساطةٍ متميزة، وبكل سلاسةٍ مختلفة، وبكل خِفّةٍ شامخة، وبكل براءةٍ فطينة، مستعدة لمواجهة الحياة ما بعد المدرسة ومواكبة الزمن ما بعد احتواء التجارب ومخالطة الخبرات، بخطوات ثابتة في وجه العراقيل والمصاعب؛ حيث إن مثل هذه المواقف قد تكون متفاوتة في الفعل وردة الفعل ومدى تأثيرها على النفس وانعكاسها على تكوين الشخصية مع مرور السنين، فقد تجتازها بعض الفتيات بانكسار وخوف وتتجسد في علاقاتها مع الآخرين بحدود صارمة وحذرٍ شديد تحسباً لتفادي الألم، وقد تجتازها الأخريات بالجفاف والبرود وتتجسد بقساوة المشاعر وتبلد الملامح والتعاملات بعصبية وتمرد لإخفاء الألم الماضي.

التنمر سلوك كمشرط حاد لا يمر إلا بترك ندبة مهما كان حجمها ومكانها، وتظهر بوضوح سواءً كانت جسدياً أو سلوكياً أو لفظياً، فرُبّ كلمةٍ ترفعها لأعالي الفضاء أو تهوي بها لأسفل الأرض وتظل تلك المواقف بصمةً دامغةً في الأذهان راسخةً جذورها في العقل الباطن لا تُمحى مهما تغلبت عليها الظروف وتراكمت كلمات الأسف والاعتذار.

تعليق عبر الفيس بوك