ابحث لابنك عن مدرس خصوصي

د. عبدالله باحجاج

العنوان أعلاه كان خلاصة حديث مُعلم عُماني مع ولي أمر طالب في المرحلة الابتدائية، وهو ما يدعو للدهشة؛ فالمُتعارف عليه أنَّ أولياء الأمور يبحثون عن المدرسين الخصوصيين لأبنائهم في سنة الحصول على الدبلوم العام "الثانوية العامة" من أجل المجموع للحصول على مقاعد جامعية حكومية، وكذلك التخصص المناسب، أما دروس خصوصية لتك المرحلة السنية الصغيرة جدًا، فمن المؤكد أنَّه حديث يدعو للدهشة فعلًا، وقد التقطناه من الأفواه بعد سماعه من الميدان، ومن ثم بحثنا عن خلفياته من رجالات الميدان، وعقبها لم نتردد في عنونة مقالنا بتلكم العبارة، وهي تحمل المضامين التالية في آنٍ واحدٍ:

- منذ الوهلة الأولى بدأت على أنَّها نصيحة تدفع إلى مسارين غير مسبوقين؛ الأول: اللجوء إلى المدارس مدفوعة الثمن، لكن الأغلبية غير قادرة ماليًا، والثاني: تبني الدروس الخصوصية منذ الابتدائية، وهذا أيضًا فيه تبعات مالية إضافية تُثقل كاهل أولياء الأمور في زمن الجبابات وغلاء الأسعار المتصاعدة.

- هي صرخة أُريد لها أن ترج الأسماع، لكي تصل، وإلا فما قيلت بوجودنا، والصرخة وراؤها قضية من الوزن الثقيل، وفعلا، هي صرخة أكثر منها نصيحة، وهي تنطلق من اكتظاظ بعض الصفوف بأعداد كبيرة من الطلبة في مدارس يصل عدد طلاب الصف الواحد فيها ما بين 40 إلى 42 طالبًا، ويقال العدد أكبر من ذلك أحيانًا؛ بل يصل الوضع في المدارس التي تكون الدراسة فيها على فترتين صباحية ومسائية إلى تقليص فترة الحصة التعليمية إلى 30 دقيقة عوضًا عن 45 دقيقة.

ولهذه القضية انعكاسات على العملية التربوية والعلمية؛ فالنسبة للمعلم، هذا الوضع يعيشه تحت ضغوط كبيرة، ويكون من خلالها قلقًا نتيجة الصعوبات التي تعترضه في تأدية رسالته. أما انعكاساتها التعليمية والتربوية، فكم سيكون نصيب الطالب/ الطالبة من الحصة في ظل ذاك العدد الطلابي الكبير، خاصة بالنسبة للمواد التأسيسية التراكمية التي تحتم التطبيق للجوانب النظرية وفق نظام كامبريدج "التراكمي في بنيته التأسيسية السنوية".

وهنا نطرح تساؤلات على سبيل التوضيح:

- كيف لمعلم الرياضيات أن يطبق درسه لكل طالب في الصف من خلال التمارين؟

- كيف لمعلم الحلقة الأولى أن يؤسس طلابه من خلال التمارين الفردية للتأكد من فهم الطالب وفق المقرر والخطة التي يستوجب أن يتبعها المعلم؟

- كيف يستطيع المعلم معالجة الضعف الدراسي في الصفوف الكبيرة العدد؟

- كيف سيستخدم العدد الكبير للصف الواحد المرافق التعليمية والمشاغل المدرسية بالشكل الصحيح؟

ومن هذه التساؤلات، نستدعي صرخة المعلم، فمقامها الاستغاثيّ يدق ناقوس القلق على مرحلة التأسيس للجيل الجديد، فما دامت هذه المرحلة مُختلة منذ البداية، فمآلاتها لن تكون مختلة فحسب، وإنما أكثر خطرًا، ولها تداعيات على الاستقرار الاجتماعي والأمني، نفترضها على النتيجتين التاليتين، وهو افتراض موضوعي: 1) التسرب من المدرسة بصورة تدريجية، 2) التوقف عن الدراسة نهائيًا.

وسيحدث هذا للطلاب الذين يفتقرون للدعم اللوجستي من أسرهم، إما لعدم مقدرة الأسرة العلمية والمعرفية على تغطية نواقص التأسيس من المنزل، أو عدم مقدرتها المالية للدروس الخصوصية والتعلم المدفوع الثمن، وما أكثر هذه الحالات، وقد تعاظمت الآن بعد التحولات والسياسات المالية الجديدة؛ كالتقاعد الإلزامي والضرائب والرسوم وقضايا الباحثين والمُسرَّحين.. والمنحنى التصاعدي لارتفاع الأسعار، وهذا عمق ينبغي إمعان التأمل فيه، فالطالب عندما يرى نفسه غير قادر تعليميًا على مسايرة زملائه في الصف، ويقف دائمًا في إحراجات سيكولوجية بين زملائه، فهل هذا يُشكل له دافعًا للاستمرارية أم للتسرب ومن ثم التوقف عن الدراسة؟!

هناك سيناريو مرعب للمآلات الأخيرة لابُد من استحضاره هنا، وهو جاذبية محلات التبغ وتجار السموم الآخرين لمثل هذه الفئات المحبطة والتي تُسَد الآفاق المستقبلية أمامها، فهي منتشرة- كما أوضحنا في مقالات كثيرة- بالقرب من المدارس والمساجد وداخل الأحياء، كما سيكون هؤلاء الطلاب، مشاريع مستهدفة لتجار المخدرات الذين يستهدفون الآن الجنسين، ولو كانت هناك دراسة عن تعاطي المخدرات من كلا الجنسين، فإنها ستبين لنا مستوى الرعب المُقبل في ظل ما يُعلن عن إحباط الكثير من عمليات تهريب المخدرات غير تلكم التي تنجح في الدخول.

لا يمكن التقليل من آثار الاكتظاظ على العملية التعليمية والتربوية ولا مآلاتها السلبية سالفة الذكر، وتستوجب الإسراع في حلها، بعضه- أي الحل- في متناول الإدارات التعليمية بالمحافظات، فيما أن الحلول الأخرى مركزية. ففي النوع الأول، بالإمكان تخفيف العدد الكبير من الطلاب داخل الصفوف من قبل بعض إدارات المدارس، فمثلًا مدرسة تقدم خدماتها التعليمية على فترتين، صباحًا ومساءً، ففي الصباح هناك أكثر من 1390 طالبًا، وفي المساء 800 طالب، فلماذا هذا التباين العددي بين الفترتين الصباحية والمسائية؟ ولماذا لا يكون العدد متساويًا أو على الأقل متوازنًا؟

هنا تظهر لنا بعض الإدارات المدرسية كجزء من المشكلة أو بعبارة أخرى، كسبب في تعميق المشكلة؛ فالإدارة المدرسية القوية لن تنصاع للضغوط، ولن تستجيب لرغبات الدراسة الصباحية على حساب العملية التعليمية والتربوية، فهي تتعرض فعلًا لضغوط من مختلف المصادر بسبب تفضيل الدراسة الصباحية على المسائية، وكان بإمكانها أن تُدير قضية العدد بأفضل مما هو قائم حاليًا، والمثال الذي سقناه سابقًا نموذجٌ على ذلك.

وأخيرًا.. نتساءل: هل قضية الاكتظاظ ظاهرة عامة في البلاد أم أنها محدودة؟ ومهما يكن، نقترح على كل مدير عام للمديريات العامة في المحافظات قيادة دراسة ملف الاكتظاظ لمعرفة حجمه، والتوجيه بالحلول الإقليمية المملكنة (كنموذج المدرسة سالفة الذكر) ورفع تصوراته العاجلة المركزية للحلول النهائية العاجلة ومن كل النواحي، وإلّا، فالمآلات سالفة الذكر مقلقة جدًا، ولا تحقق النتائج الوطنية والتعليمية والتربوية التي تنفق عليها الدول الأموال الطائلة، فكيف إذا ما استدعينا كذلك الأوضاع الأخرى التي تعاني منها قضية التعليم في بلادنا؟ وقد أشار إليها بوضوح سعادة يوسف بن محمد المعمري عضو مجلس الشوري في بيان عاجل خلال الساعات الماضية، ومن بينها وجود مدارس بلا مدرسين أو كتب أو تجهيزات.. وهي قضايا تتكرر سنويًا.