أكمل الفراغ...

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

 

يبدو لي أنَّ الطبيب السعودي هاني نجم عندما أقدم على إجراء عملية جراحية لقلب طفل مُصاب بورم سرطاني، يبلغ من العمر ستة أشهر لم تكن مجازفة، ولم يعتمد في إجراء العملية على خبرته العلمية وحدها، ولم يكن ذلك تحت تأثير فعل الأمر" قوّي قلبك"؛ إنما كان يملك من شدّة العزم والإيمان بالعمل ما يجعله يتفق مع خبرته العلمية؛ فهو على ما يبدو يجيد القفز والوقوف على الفراغ ليخلق منه ما يمكن أن يشغل الحيز؛ فقد استطاع أن يستأصل الورم ليُعيد الجنين إلى رحم أمه؛ مكملا ما تبقى من شهورالحمل؛ فيولد معافى لا يشكو علّة.

 

لا أظن أن هناك أمرًا مجهدًا أكثر من أن تُؤمر بفعل شيء، أي شيء مهما كان القيام به ميسرًا، كنتُ وما زلتُ غير متصالحة مع أفعال الأمر، ولا أظنّ أنني سأذعن لها لاحقًا، ربما الفعل  "أكمل" هو الأكثر استفزازا؛ فإني لا أحبذ أن أكمل عملا قد بدأه غيري، وكثيرا ما أكره الأسئلة الموضوعية أثناء حلّ الاختبارات، فقد كانت توقعني في فخ مصيدتها وتحرمني لذة الفرحة بالدرجة النهائية، لا سيما السؤال المكون من كلمتين " أكمل الفراغ…." فهو لا يكتفي بغطرسته المتعالية؛ إنما يشير إلى وجود فراغ، تقع على عاتقي مهمة ملئه وإلاّ خسرتُ درجته؛ فأحاول استنفار ذاكرتي لتسعفني بما يمكن أن أملأ به الفراغ، لاجتياز السؤال بأفضل النتائج وأقل الخسائر؛ فالخسارة أمر مرهق.

أدركتُ لاحقاً وجود الكثير من الفراغ الذي ظلّ غير مكتمل، لقد عرّف درس العلوم المادة على أنها "كلّ ما يشغل حيزا من الفراغ" ممّا يدل على أن الفراغ دائما أكبر من المادة مهما بلغ حجمها؛ فهي لن تملأ الفراغ؛ إنما تشعل حيزا منه.

يُقال: "إنّ الوضع على كف عفريت" هل ينطبق المثل على ما يشهد العالم حاليا من تموّج وارتجاج؟ تخيل معي أن نقف معا على كفّ عفريت وبالغ كثيرا في تقديم كرمه والضيافة؛ فتارة يقبض راحته علينا فتضيق بنا ونضيق بها، وتارة يخضّها ويُكثِر رجّها مُحْكَمة، وتارة يبسطها؛ فنستعيد أنفاسنا وبعض قوامنا؛ فنحاول تثبيت أقدامنا عليها كي لا نقع في الفراغ!

لا أدري أهي مغامرة أم مجازفة أم جنون!

لا شك أنها الأقرب للجنون؛ فلا يُعقل أن نقف على كفّ عفريت، يقبض ويبسط ويرجّ متى شاء؛ فالاضطراب- في أو على- كفّ العفريت غير مقنع؛ لكنه قد لا يكون خيارا؛ فالعفريت لا يعطي خيارات ولا يستخدم أفعال الأمر؛ إنما يفعل! وإن كان يُدرك أنه ماض إلى متاهة قد تجرّ أزمات، ربما لأنه لم يعد مقتنعاً بما يتمتع به من الحيز ويرى أن في الاستحواذ على المزيد قوة تعزز مساحة الحيز لديه.  

هناك مثل عربي يقول: "فاقد الشيء لا يعطيه" وبناء على ما تُدلي به مساحة الحيز؛ فإن الفراغ لن يمتلئ وبلوغه (الفُل مارك) أمر في غاية التعقيد، لن يتحقق لو بذل فعل الأمر ما بلغ الرئيس بوتن من العناد والقوة.

لقد مرّ العالم بالكثير من الثورات، بدءا من الثورة الصناعية، مرورا بالطباعة والترجمة والإعلام المرئي والمسموع، ثم الإنترنت وصولا إلى الذكاء الصناعي، إلاّ أنّ الفراغ لم يمتلئ؛ ممّا يشير إلى أن الحيز مهما وصل من الحجم لن يملأ الفراغ، فالفراغ يقوم بدحضه ويلتهمه ويتسع ليتعاطم؛ الأمر الذي يجعل الآدمي يتجه للحرب؛ بالرغم من أنها لا تجلب سوى المزيد من الفراغ!  

  لا أعتقد أن هناك من لم يسمع عن إكسير الحياة أو عن حجر الفلاسفة، الذي يقال إنّ مدينة الإسكندرية كانت موطن البحث عنه، فقد كان همّ الإنسان قديما في العصور الوسطى خاصة البحث عن الخلود، فهو يعتقد أن حجر الفلاسفة يحول المعادن الرديئة إلى ذهب ويمنح الإنسان الخلود، ووصل إلى اكتشاف مكون من جزأين، سائل وصلب السائل يمثل إكسير الحياة والصلب يمثل حجر الفلاسفة؛ لكن العلم الحديث استطاع أن يبقِ تلك الاكتشافات مجرد معتقدات أو اجتهادات ونفى نفيا قاطعا وجود نواة ذرة عنصر يمكن أن تتحول إلى نواة ذرة عنصر آخر وتؤثر فيه، واكتفى من هذا الجانب بترتيب العناصر لتكوين مادة جديدة.

ولكن ماذا لو أكد العلم ما يُعتقد حول حجر الفلاسفة وإكسير الحياة، من سيحظى بهما من شعوب العالم، وهل سيمتلئ الفراغ، هل ستكثر العفاريت وتحظى بالأكثر ملاءمة لملء الفراغ ويتم فلترة مادونها من الحيز!