ناصر أبو عون
إنّ نقطة التحول الفارقة في حياة الطفل حاتم بن حمد بن عيسى الطائي الذي شاءت له الأقدار أن يكون مسقط رأسه في "حاضرة البحرين" مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث كان والده قبلها قد وصل إلى "جوادر" بتزكية من صاحب السُّمو السيد طارق بن تيمور عام 1956م، بصحبة كتيبة من قوات السلطان المسلحة، واستقرّ به المُقام هناك مترجماً في القنصلية البريطانية.
فلما تيقّن الشيخ حمد بن عيسى الطائي من تحرك القوات البريطانية وجيش السلطان سعيد قادمين من "الدقم" وعزمهم على نقل مركز القيادة العامة للقوات المسلحة في «عبري»؛ أبرق برسالة عاجلة إلى الشيخ طالب بن علي الهنائي– وزير دفاع الإمامة-، وأنبأه بزحف سرايا جيش السلطان تحت إمرة الجنرال ماكسويل صوبها، والذي أصدر بدوره الأوامر لتنظيم الإمامة العسكريّ بإجراء تراجع تكتيكي والتحصن بالجبل الأخضر؛ وإعادة تنظيم الصفوف استعدادًا لمعركة فاصلة ينتزعون فيها "نزوى"، ليشتعل بعدها أوار المعارك بين الفريقين في التاسع والعشرين من ربيع الثاني 1375هـ الموافق الخامس عشر من ديسمبر1955م، إلى أن وضعت الحرب أوزارها يوم السابع من رمضان 1378هـ، الموافق السابع عشر من شهر مارس 1959م وتكللت بانتصار مؤزّر لقوات السلطان سعيد وتوحيد عُمان جغرافياً وتاريخياً، وانتهاء عصر الإمامة.
فلمّا انكشف سِتر والد حاتم الطائي، واطَّلع الإنجليز عبر تقارير العسس والبصَّاصين على ما اقترفت روحه من شجاعة، غير هيّاب عواقب إبراقه لقيادة الإمامة رسائل التحذير من مقر القنصلية البريطانية وعقر دارهم في "جوادر" ومؤازرته للمقاومة العُمانية ضد الاحتلال الإنجليزيّ، ومساندته لجيش الإمامة في عملياته العسكرية ضد البريطانيين وجهاده لطردهم من عُمان، أرسلوا عليه أوهاق الوشاية، لتردغه في أوحال الخيانة، وتوصمه بالنكص والمهانة، غير أنّ يد الأقدار كانت عليه حانية، ودعوات الأهل والأقربين حصّنته من شر كل داهية؛ فبعد أن عقد الجنرال الإنجليزي "ماكسويل" النيّة على مُحاكمته عسكريا بتهمة الخيانة العظمى، والتي قد تنتهي به إلى المقصلة أو غياهب السجون المشددة؛ جاءه مرسوم العفو السلطاني بعد تدخل السيد طارق بن تيمور – رحمه الله – طالباً له الصفح، فخلّوا سبيله واستبعدوه من العمل بالقنصلية، ليعود إلى عُمان قادماً من جوادر سنة 1958م، ويلتحق مباشرة بوظيفة مترجم عسكريّ بالجيش السلطانيّ في مناطق «فهود» و«الدقم».
ولأنَّ والد حاتم الطائي رجل رضِعَ حبّ المُغامرة، وركوب الشدائد العِضاض، واحتلاد الأهوال يحمل بين جنبيه قلبا لا يتعسّف الركون والدعة والرضا بالوظائف المُترفة، فقد خطّ بيده رسالة استقالته، وحمل عصاه، وجهّز زادا وراحلة، وولّى وجهه شطر "البلد الحرام"، ونزل في ضيافة «الشيخ مُحمد بن عبد الله السالمي (الشيبة)» بـ«الخُبر» في المنطقة الشرقية؛ غير أنَّه لم يطب للشيخ حمد الطائي المقام كثيرا في المملكة العربية السعودية ولم يأنس بها إلا نزرا يسيرا، وارتحل بعدها إلى «البحرين»، ونزل هناك بمنطقة «القضيبية» قُرب جامع الزيّاني، مسقط رأس المُكرَّم حاتم بن حمد بن عيسى الطائي يوم الخميس الثالث من رمضان 1381هـ الموافق الثاني من فبراير 1962م بـ"مستشفى السلمانية"، حيث وضعته أمه "وهنا على وهن"، وهي المرأة العفيفة المطواعة «أسماء بنت يوسف بن سعيد بن ناصر الكندية»، والتي كانت لأولادها وزوجها نبراسًا يُومِض لهم في مواضع الزلل، وشوّارةً صِدّيقةً إذا جبأَ لهم كلُّ داهية إِذْل، وكَتِفًا دفيئًا إذا شكوا بثًّا وحزن، وانْبتَّ في عيونهم الأمل، وجفنًا حرّاسًا إذا اضطرمت بهم العِلل، ومعوانةً لذراريها على صروف الدهر؛ لا ترضى الدنيّة إذا الدهر أكدى، وسِباطًا وبحرًا إذا القدر أثرى.
إلا أنّ أيام الهناءة قليلة، فلم يلبث والده إلا بضعة شهور حتى وجد نفسه محاصراً بجواسيس "الميجور الإنجليزي براون"، يُنغضُون إليه رؤوسهم، وينغِّصون على أولاده معيشتهم، وينصبون له فخاخ مكائدهم، ويصنعون له الكمائن في طرقاتهم، ويستدرجونه إلى أشراكهم؛ فصار الرجل المُعنّى رهينَ محابس ثلاثة؛ أمّا المحبس الأول؛ فكان في "اغترابه وغربته" التي لا تكلّ عن النهش في روحه وبدنه وتقضّ مضاجع رقدته في هدأة الليل الساجي، وتوقظ طائر الكرى شادياً أغاني السُّهاد في وحدته، وتُمايس مرارةَ العيش في مشربه ومأكله، وتساقيه كؤوس الصبابة والنوى، وأمّا المحبس الثاني، فكان "شبح الترصّد والمطاردة" من البصّاصين والأعين الاستخبارات البريطانية التي كانت تعدُّ عليه أنفاسه، وتبيت في شِعَارِه، ما بين جلده وسرابيله لتستكشف أحواله، وتتلصص على أفكاره، وتسيمه القلق، وتطبي الوساوس إلى مخدعه، وأمّا المحبس الأخير والذي كان يطبّب جراح روحه؛ فتمثل في "زوج عروب رؤوم" أمّ أولاده ورفيقة دربه، تتأبط شقاءه، وتستظل في نعمائه، أولاد صغار "سعود وعيسى وحاتم وأمل" مثل زغب القطا يرافقونه شقاء رحلته، ويبيتون في رحاله، ويستهنئون بصحبته وإنْ كان شظف العيش رفيقهم.
فلمّا دخل عسكر "الميجور الإنجليزي براون" داره، وروعوا أهله وأطفاله، ونبشوا كوامنه وأدراجه، واقتادوه مأسورا، إلى ثُكنتهم قيدَ التحقيق، في أقبية الاستخبارات الإنجليزية، عاودت طائفة من زبانيتهم اقتحام البيت مرةً بعد مرةً، وهتك حرمة جدرانه وأثاثه، ونكأوا راحة زوجه أشباله، وأدخلوا القلق إلى مسارب مأمنهم، فسرى الروع في دمائهم.
وبعد أن أعيا الشيخ حمد الطائيّ عساكر الإنجليز وأعجزهم عن إثبات التهم الملفقة له بالتخابر، قضوا بإبعاده من "البحرين" إلى "قطر" التي لم ترق له الإقامة فيها؛ فقد تيقن بأنَّ أجهزة الاستخبارات مازالت تتعقّب خطواته في سائر حواضر الخليج، وتتشوّفُ على لقاءاته، وتتبعه في كل خطواته، وترصد تحركاته في الوهاد، وتَعُدّ عليه أنفاسه في البجاد والنجاد.
إلا أنَّ الأمّ الرؤوم ضمت إليها أولادها "سعود وعيسى وحاتم وأمل" وأغلقت عليها بابها حيناً من الدهر، وبقيت في البحرين يأكل قلبها الانتظار، وظل والدهم "الشيخ حمد الطائي" تتقطع به السبل حتى ارتأى لنفسه أن يرتحل إلى الساحل الشرقيّ من عُمان؛ ففراسته بهم لا تخيب، وأهله أقرب وشيجةً له، وهُم أصلاء من سلالته، وشيوخه من رهطه وبني جلدته، وبين ظهرانيهم سيكون له قرار مكين، ويستدفئُ في أكمامهم مرعيًّا بين أرحامهم وعشيرتهم، فلما نزل بساحتهم استأنست روحه بخدنها، ونعس جفنه في جوانحها، وتكلّل مسعاه بين أفيائها؛ فكانت (دبي) مقره ومقصده.
ثم ركبت إليه زوجه الشَمَم "أسماء الكندية" و"حاتم الطائي" ولدها يتعلّق بخمارها؛ و"سعود" و"عيسى" يتقدمان مسيرتها"، وابنتها "أمل" في أعطافها؛ بصحبة عمهم "حمود"، على ذات ألواح ودسر قاصدة ميناء "دبي"؛ امرأة عروب حييّة تأبى المذلة والدنيّة في عرضها ودينها، ولو كانت ظَبَا السيوف تحزّ حبل وريدها، والجحافل المدججة تتدرع بالزعف المتصلصلة وتحاصر أنفاسها، وتُصدِّع صُمّ الصفا في أركان بيتها.
وفي نهاية هذا الفصل من رحلة الشقاء التي خاضها أبناء الشيخ حمد الطائيّ تصل بهم الأم آمنة مطمئنة إلى عرين رجل هزبر ضيغم، اتخذ لها في دبي سكنا واسعا ومستقرا هانئاً، تتلفع في جنباته مِعْجَرَ الفضيلة، من أخمص قدميها إلى مفرق إبائها غير مبالية، بعد أن حلب الدهر أشطره على رأسها.