الحوكمة الجامعية.. نحو تعزيز الجودة والتنافسية

 

د. مسعود بن علي الحارثي

alharthy_ma@hotmail.com

إذا كان التعليم أساس التنمية، فإنَّ الجامعات هي الشريان الحيوي في بناء المجتمع وتوعيته، ليرقى إلى أعلى مستويات العلم والحضارة. وفي ضوء ذلك، فإنَّ عملية الارتقاء بالعملية التعليمية تتطلب منظومة متكاملة للحوكمة.

 ويُعد موضوع الحوكمة من الموضوعات الحديثة في الفكر الإداري، فهو مصدر مهم لقوة المؤسسات والمنظمات واستدامتها. وقد ظهرت الحاجة إلى تطبيق نظام الحوكمة في مؤسسات التعليم العالي لضمان جودة ونوعية الخدمات المقدمة للمستفيدين بناءً على أسس ومعايير علمية ومهنية شاملة للمجالات كافة، وذلك من خلال علاقتها بآليات وإجراءات الإصلاح الإداري الذي يُعد أحد المحاور المهمة في منظومة الحوكمة، من خلال الإسهام في ضبط العمل، وتوجيه العمليات نحو استدامة النجاح والتطور.

إنَّ النهوض بالوظائف الجامعية يتطلب تطور الحوكمة والأداء المؤسسي فيها، وفق التشريعات واللوائح المنظمة للعمل، بحيث يسير القرار الأكاديمي حسب الأصول الأكاديمية بدءًا من مجالس الأقسام، وحتى مجلس الجامعة، وبما يكفل الشفافية في العمل والمساءلة عن الأداء والنتائج، والمشاركة المؤسسية لأطراف اتخاذ القرار كافة. لذا، فإنه من الأسس المهمة في تطوير الجامعات أكاديميًا وإداريًا تنفيذ الحوكمة الجيدة، التي تعد بمثابة الأداة التنفيذية للوصول إلى تعليم نوعي رفيع المستوى.

وفي السياق الوطني، وإدراكًا من الدولة لأهمية تبني حوكمة مؤسساتها بالشكل الذي يضمن تحقيق الحد المطلوب من مبادئ الحوكمة المرتبطة بــ(1) الشفافية، و(2) المساءلة، و(3) المشاركة، و(4) المرونة، و(5) الاستقلالية و(6) الإفصاح؛ جاء محور الحوكمة كواحد من المحاور الرئيسة في رؤية عمان 2040، موجهة بذلك مؤسسات الدولة لتبني نظام الحوكمة الذي يمثّل أفضل السبل الآمنة للسير بهذه الرؤية نحو تحقيق أهدافها. ومع تعدد مؤسسات الدولة فإنَّ مؤسسات بيئة التعليم العالي، وفي مقدمتها الجامعات، تعد من أهم المؤسسات التي يجب أن تضطلع بأدوار مهمة وحيوية في هذه الرؤية.

كما يأتي تعزيز حوكمة التعليم ودورها في النهوض بمستوى المؤسسة والعملية التعليمية فيها، في صميم أولويات الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040، والتي جاء من بين توصياتها، التوصية الآتية: "تطبيق مبادئ الحوكمة في إدارة مؤسسات التعليم العالي، وتعزيز دور جميع الأطراف في صنع القرارات المبنية على الأسس والقواعد الأكاديمية".    

وتأسيًا على ذلك، فإنَّ المهمة المباشرة لأي جامعة لا تتمثل في مجرد تكرار نموذج حوكمة جامعي قائم، بقدر ما هو استكشاف لكيفية دمج نقاط القوة والتمايز على أفضل وجه في توزيع السلطة واتخاذ القرارات، وفي الإدارة القوية المشتركة، على أساس من التميز المؤسسي والاستدامة.

مفهوم الحوكمة ومسوغات تطبيقها

تناول كثير من فقهاء القانون والإدارة والاقتصاد مفاهيم عديدة للحوكمة، إلا أن معظمها تدور حول معنى الإجراءات التي تضمن حسن سير العمل. وإذا نظرنا إلى الجانب اللغوي للحوكمة، نجد أنها تعني: (أ) الحكمة، بما تقتضيه من التوجيه والإرشاد، و (ب) الحكم، بما يقتضيه من السيطرة على الأمور من خلال وضع الضوابط والإجراءات التي تتحكم في السلوك، و (ج) الاحتكام، بمعناه الرجوع إلى مرجعية قانونية وأخلاقية، وخبرات يتم الاستئناس بها من تجارب رائدة، و(د) التحاكم، وهو الخضوع للعدالة عند إساءة التصرف بما يضر بمصالح أطراف المؤسسة.

الحوكمة هي نظام شمولي يتم بموجبه إخضاع نشاط المؤسسات إلى مجموعة من القوانين والنظم التي تحقق الجودة والتميز في الأداء، من خلال القدرة على التحكم في جميع العمليات الإدارية بطريقة علمية رصينة، واختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق أهداف المؤسسة، وضبط العلاقات بين جميع الأطراف العاملة فيها. ووفقًا لهذا المنظور، فإنَّ مفهوم حوكمة الجامعات يعني قدرة هذه المؤسسات التعليمية على تحقيق أهدافها بمستوى عالٍ من الجودة، وتحسين أدائها باتباع خطط فاعلة، وأساليب مناسبة، من خلال الإدارة الجيدة، وتأكيد مفردات المشاركة، والمساءلة، وحفظ الحقوق. 

ويرى البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أن مفهوم الحوكمة يقوم على دعائم ثلاثة، وهي: (1) الدعامة الإدارية، وهي النظام الخاص بتنفيذ السياسات، لمؤسسات المجتمع، والتركيز على إدارة الأعمال، و (2) الدعامة السياسية، وتشير إلى عمليات صنع القرارات المتعلقة بتكوين السياسات العامة، و(3) الدعامة الاقتصادية، وهي عمليات صنع القرار التي تؤثر على أنشطة الدولة الاقتصادية، وعلاقتها بالاقتصاديات الأخرى.

وتنبع أهمية الحوكمة الجامعية كونها تعمل على: (أ) تحقيق استقلالية الجامعة، وتحديد اتجاهها الإستراتيجي، والتأكد من فاعلية إدارتها، و(ب) مساعدة الجامعة في تحقيق أهدافها، بأفضل السبل الممكنة، و(ج) ضمان التوازن بين المسؤوليات الإستراتيجية بعيدة المدى، ومسؤوليات العمل اليومي، و(د) تعزيز القدرة التنافسية وتجنب الفساد الإداري والمالي، و(هـ) ضمان موارد جديدة ومستدامة  للجامعة، و(ز) ضمان حقوق ومصالح العاملين بها دون تمييز. 

وإذا كانت الحوكمة مصدرًا مهمًا لتمكين الجامعات من التنافسية الدولية، والحصول على الاعتمادات الأكاديمية، باعتبارها تمثل مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميّز في الأداء، عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفاعلة لتحقيق خطط وأهداف المؤسسة؛ فإنَّ الحوكمة اليوم تعد من المعايير المهمة في مسألة التصنيفات الدولية للجامعات، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

"إن من بين أهم الأسباب التي تحول دون ارتقاء الكثير من جامعات الوطن العربي في سلم التصنيفات الدولية هو غياب الحوكمة، من حيث إنها القاعدة التي تبنى عليها القيمة الأكاديمية والبحثية والتنافسية لأي جامعة، وهي المحرك لعناصر التميز والإبداع والابتكار". الغامدي، نوف (2019). حوكمة الجامعات والبحث العلمي، صحيفة مال.

وإذا كانت حوكمة الجامعات تساعد المؤسسات الجامعية في تحقيق الميزة التنافسية الدولية، فإنَّ تطبيق مبادئ الحوكمة ومعاييرها يسهم بلا شك، في رفع مستوى جودة مخرجاتها، وفي سمعتها الأكاديمية والعلمية، وزيادة كفاءتها الداخلية والخارجية.

معايير الحوكمة ومؤشرات قياسها

نظرًا للاهتمام المتزايد بمفهوم الحوكمة، فقد حرص عدد من المؤسسات على دراسته، وتحليله، وتحديد أهم ركائزه ومعاييره، والتي من أهمها: (1) المسؤولية، و(2) الشفافية، و(3) المساءلة والمحاسبة، و(4) الإدارة الفعالة، و(5) المشاركة.  

وإذا كان تحديد معايير حوكمة الجامعات مهم للارتقاء بمستوى أداء هذه المؤسسات وجودة مخرجاتها، فإنَّ وجود ما يعضد ديناميكية وسلامة تطبيق هذه المعايير من خلال وضع مؤشرات قياس واضحة لها، يعد هو الآخر أمرًا بالغ الأهمية؛  فهذه المؤشرات، هي البوصلة التوجيهية لمسار هذه المعايير والاطمئنان على صحة تطبيقها، من ناحية، ولضمان قدرتها على تقوية مركزها التنافسي، من ناحية أخرى.

ولتوضيح ذلك، فإن معيار المسؤولية، على سبيل المثال، باعتباه مفهومًا يتحدد في مسؤولية الأفراد عما يقومون به من أعمال، ومساءلتهم عن أدائهم الوظيفي، وما يصدر عنهم من سلوك وتصرف؛ فإنِّه يتطلب معه وضع مؤشرات لقياس هذا المعيار، وتحديد أوزان واضحة له تقيس مستوى كل عنصر في هذه المؤشرات. وعلى هذا النحو، يُمكن تطبيق هذا النهج على معايير الشفافية، والمساءلة والمحاسبة، والإدارة الفعالة، والمشاركة.  

كان ذلك مدخلًا موجزًا عن أهمية الحوكمة الجامعية في رفع مستوى أداء مؤسسات التعليم العالي، وتعزيز قدرتها التنافسية؛ محليًا، وإقليميًا، ودوليًا. واستكمالًا لهذا الموضوع، فإنَّ المقال القادم، سوف يسلط الضوء، بمشيئة الله، على أبرز نماذج حوكمة الجامعات ومراحل تطبيقها.

تعليق عبر الفيس بوك