أ. د. حيدر أحمد اللواتي
تتسم كرتنا الأرضية بمميزات خاصة تسمح لها باحتضان الحياة، فكتلة الأرض والضغط الجوي والمسافة التي تفصلها عن الشمس تسمح للماء- الذي يعد شريان الحياة- أن يتواجد بحالاته الثلاث المعروفة، الغازية والسائلة والصلبة، أما كوكبا الزهرة والمريخ أقرب كوكبين لكرتنا الأرضية، فتصل درجات الحرارة فيهما إلى أكثر من 400 درجة مئوية ويمكن أن تنخفض درجات الحرارة في كوكب العطارد لتصل دون سالب 170 درجة مئوية، مما لا يسمح بتواجد الماء في حالته السائلة.
في حين أن كوكب المريخ يتواجد به الماء على شكل ثلج متجمد وإن كانت درجات الحرارة فيه في بعض الأحيان تسمح بتواجد الماء فيه في حالته السائلة، إلا أنه ونظرًا لانخفاض الضغط فيه وبشكل كبير للغاية، فإن الثلج يتحول إلى بخار ماء بشكل مباشر ودون المرور بالحالة السائلة؛ لأن تواجد الماء في حالته السائلة لا يعتمد فقط على درجات الحرارة؛ بل لا بُد من أن يكون الضغط الجوي مناسبًا أيضًا.
ولا يتميز كوكب الأرض بتواجد الماء فيه بحالاته الثلاث فقط؛ بل هو لا يسمح له بالنفاذ من غلافها الجوي السميك، فكل قطرة من قطرات الماء ومنذ أن تواجدت داخل هذا الغلاف الغازي تكبلت بسلاسل من حديد وباتت أسيرة الأرض، ولذا لها تاريخ عريق، فلقد وُجدت على هذه البسيطة وانتقلت بين أرجائها، فعاشت مع مختلف الحضارات البشرية، كحضارات ما بين النهرين والحضارة المصرية القديمة، وانتقلت بين تلك الحضارات والحضارات الهندية والصينية واكتشفت حضارات أمريكا اللاتينية قبل أن نكتشفها، ولو نطقتْ لحدثَتكَ بما لم تُحدثك به كتب التاريخ قاطبة، فهي ملمة بتاريخ الأرض وتواجدت قبل أن تتواجد بها جميع الكائنات الحية!
وعلى الرغم من قدم الماء وكثرة تعاملنا معه، فهو يشكل حوالي ثلثي أجسامنا إلا أن الماء لا تنتهي عجائبه، فما زلنا نكتشف حقائق عنه لم نكن نعرفها من قبل، ففي 22 سبتمبر الماضي نشرت مجلة "نيتشر" العلمية الشهيرة بحثًا لبعض العلماء العباقرة من جامعة كامبريدج عن سؤال قد لا يبدو منطقيًا؛ بل ربما قد يعده البعض ساذجًا، وهو هل الماء الذي ينفذ في الأغشية البيولوجية الرقيقة هو نفس الماء الذي نشربه ويحمل نفس مواصفاته؟!
والسبب من وراء هذا السؤال هو أن هذه الأغشية رقيقة للغاية، ولكونها رقيقة للغاية فإن جزيئات الماء عندما تنفذ في هذه الأغشية تنفذ على شكل طبقة واحدة من الجزيئات. والماء الذي نشربه يتكون كما هو معروف من ملايين الجزيئات وكل جزيء يتكون من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين، وترتبط هذه الجزيئات وتتجاذب فيما بينها مكونة روابط تعرف بالروابط الهيدروجينية. وعندما ينفذ الماء في هذه الأغشية، ونظرًا لأنها رقيقة للغاية، فإن جزيئات الماء تشكل شبكة مسطحة سمكها جزيء واحد من الماء.
قد يتساءل البعض أليست التركيبة الكيميائية للماء واحدة؟ فلماذا سيتغير سلوك الماء؟
لقد لاحظ العلماء أن سلوك المادة لا يعتمد على تركيبتها الكيميائية فحسب؛ بل بترتيب جزيئات المادة أيضًا، فالفرق بين الجرافيت (المستخدم في الكتابة في القلم الرصاص) وحجر الماس الثمين هو في ترتيب الذرات وليس في التركيبة الكيميائية لهما؛ إذ إن التركيب الكيميائي لهما متطابق تمامًا وبنسبة 100%.
ولاحظ العلماء كذلك أن مادة الجرافين وهي عبارة عن طبقة أو صفيحة واحدة فقط من مادة الجرافيت تختلف تمامًا في صفاتها عن الجرافيت.
ومن هنا تساءل هؤلاء العلماء عن مواصفات وسلوك الماء الذي يتكون من طبقة واحدة من جزيئات الماء ولا يتعدى سمكه جزيئاً واحدا من الماء، هل سيختلف سلوكه عن السلوك المتعارف للماء؟
النتائج البحثية أشارت إلى أن الماء عندما يتكون من طبقة واحدة من جزيئاته، فإنه يتصرف تصرفًا مُغايرًا تمامًا لما هو معهود، فهو لا يتصرف كما يتصرف الماء في حالته السائلة أو الغازية، ولا يتصرف كما يتصرف الثلج؛ بل يتصرف بصورة مغايرة لذلك، فلا هو صلب ولا هو سائل ولا هو غاز، وعليه فإن الماء في الأغشية الحيوية ربما يتصرف بصورة مغايرة تمامًا لما هو معروف عندنا!
ولاحظ العلماء أن الماء في حالة وجوده كطبقة واحدة من الجزيئات وعند تعريضه لضغط شديد، فإنه يتحول إلى وسط موصِّل للكهرباء؛ بل عالي التوصيل، ومن المعروف أنَّ الماء الذي نتعامل معه يوميًا والخالي من الأملاح لا يوصل الكهرباء، ولكنه يعد موصلًا للكهرباء عندما يحتوي على الأملاح.
الماء على الرغم من صغر تركيبته الكيميائية وبساطته لكنه عالم قائم بذاته، استطاع الإنسان من خلال التفكير فيه بطرق غير معتادة كشف بعض مكنون أسراره وما زال أمامنا الكثير، فهو عالم لا تنقضي عجائبه!
*****
المصدر:
- Kapil, V., Schran, C., Zen, A. et al. The first-principles phase diagram of monolayer nanoconfined water. Nature 609, 512–516 (2022).
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس