انتصار الإرادة

 

محمد بن سالم البطاشي

وما نيل المطالب بالتمني // ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

ينطبق هذا البيت تمام الانطباق على قضية ترسيم الحدود البحرية بين دولة لبنان وإسرائيل، التي لم تكن سابقًا تلقي بالًا للاحتجاجات اللبنانية المتكررة لانتهاكها حرمة وسيادة تلك الحدود، بحكم التفوق الهائل في القدرات العسكرية الإسرائيلية التي حاولت بواسطته فرض سياسة الأمر الواقع التي دأب الاحتلال عليها منذ نشأته، والتي بموجبها كان يمارس شتى أنواع الإجرام والإرهاب في المنطقة، في تجسيد عملي لشريعة الغاب.

لكن دوام الحال من المحال، و"لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان"؛ فبالرغم من ظهور مؤشرات على احتمالية وجود ثروات كبيرة في تلك المنطقة البحرية، إلّا أن تغير موازين القوى العسكرية والهزائم التي أصيبت بها قوات الاحتلال في العديد من جولات النزال الميداني في العقود الأخيرة، قد أجبر إسرائيل على مراجعة مواقفها السابقة والنزول من عليائها والرضوخ لصوت الحق وتقبل التفاوض بشأن المطالب اللبنانية المشروعة.

هكذا انطلقت جولات التفاوض غير المباشر برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أمريكية في أكتوبر عام 2020، ومنذ ذلك الحين ظلت جولات المفاوضات بين شد وجذب حتى جاءت الانفراجة في هذا العام؛ حيث بدا أن المفاوضات أخذت تحقق نجاحات ملموسة وبدأت هوة الخلاف تتقلص شيئا فشيئا بفضل الجهود الأمريكية والأحداث الإقليمية الساخنة التي أخذت تضغط باتجاه حلحلة هذه القضية.

كان الوسيط الأمريكي السفير عاموس هوكشتاين يقدم في كل مرة نسخة معدلة لصيغة الاتفاق ويقدم الطرفان تعديلاتهما عليها، ولقد كانت القيادة اللبنانية ثابتة وحازمة في توضيح موقفها للوسيط الأمريكي والقاضي بالتمسك الكامل بحق لبنان في مياهه الإقليمية وعدم التفريط بسيادته ومصالحه وثرواته الطبيعية تحت أي ظرف، وثابرت على هذا الموقف بعزيمة تهد الجبال الصم، وكان الوفد اللبناني المفاوض يتفاوض على كل شبر من تلك الحدود حتى نال لبنان كامل حقوقه. ولقد كانت القيادة اللبنانية تستند في صلابة موقفها على تأييد شعبي كاسح، وقوات مُسلحة عازمة على انتزاع حقوق وطنها بكل السبل المتاحة، وقوى سياسية توحدت حول المطالب المشروعة للبلاد، ومقاومة يدها على الزناد تنتظر الإذن من القيادة السياسية إذا جدَّ الجد وحانت ساعة الهيجاء، كل هذه العوامل وغيرها ساعدت في تحدي العنجهية الإسرائيلية وغلوها المعتاد، ووضعتها في حجمها الطبيعي.

اعتمد لبنان الخط 23 رسميًّا حدًّا لمنطقته الاقتصادية الخالصة واعتبر الخط 29 خطَّا للتفاوض. ويتلخص النزاع بين لبنان وإسرائيل- باختصار شديد- على ترسيم الحدود البرية والبحرية، ومطالبة إسرائيل بما تدعيه حقوقها في حقل "قانا"- تتجاوز إحداثياته الخط 23 (860 كيلومترًا مربعًا هي مساحة المنطقة البحرية محل النزاع)- والذي ارتضاه لبنان عام 2011 كخط لحدوده البحرية مع إسرائيل، وأودع خرائطه وإحداثياته لدى الأمم المتحدة. وفي الصيغة الجديدة للإتفاق فإن حقل قانا سيقع بالكامل تحت السيادة اللبنانية (سيتم إمالة الخط 23 ناحية الجنوب بحيث يدخل الحقل كاملًا)، وأن أية مطالبات لإسرائيل بالعوائد المالية في هذا الحقل ستتحملها شركة توتال صاحبة الامتياز في هذه المنطقة. وهذا يعني بلغة الأرقام أن لبنان قد حقق مطالبه باسترداد المساحة البحرية التي يمثلها الخط 23 وفوقها كامل المساحة التي تقع خارج هذا الخط والتي يمتد فيها حقل قانا، وبذلك يستكمل لبنان منطقته الاقتصادية الخالصة البالغ مساحتها 22 ألفا و730 كيلومترًا مربعًا. وبحسب المعطيات الأولية يقدر المختصون كميات الغاز المتواجدة في الركن الجنوبي الغربي من هذه المنطقة بنحو 25 تريليون قدم مكعب، وإذا صدقت التوقعات ونجح لبنان في استخراج الغاز والنفط فسيكون لاعبًا مهمًا على المسرح الإقليمي نظرًا لموقعه الإستراتيجي.

إنَّ مسار التفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل يصلح أن يكون موضوعًا للتدريس في كليات السياسة والاقتصاد والمعاهد السياسية والدبلوماسية المتخصصة؛ فبالرغم من المشاكل التي يعاني منها لبنان على أكثر من صعيد والوضع العربي العام وكل الرزايا التي تحيط بالإقليم إحاطة السوار بالمعصم، فإنّ القيادة اللبنانية ووفدها المفاوض قد نجحوا في توجيه دفة التفاوض لمصلحة بلدهم، ولم يفرطوا في حقوق شعبهم ووطنهم ولم يتزحزحوا عن هذا الموقف قيد أنملة، بالرغم من هياج قادة إسرائيل الذين أرغوا وأزبدوا وهددوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقد عظم الأمر عليهم  وهالهم وأثار حفيظتهم أن يروا لبنان صامدا وثابتا على موقفه، رغم الإغراءات حينا والتهديدات أحيانا أخرى، إلا إن هذا النواح والعويل قد ذهب أدراج الرياح مع إصرار لبنان على موقفه وقولته المدوية (غاز  قانا مقابل غاز  كاريش)، وهو ما تحقق في المسودة الأخيرة للاتفاق الذي ينتظر الإعلان عنه قريبا، وبهذا الاتقاق تكون المنطقة قد تجنبت حربًا حتمية لم يكن أحد يريدها، نظرًا لما يعانيه العالم اليوم من حروب وصراعات غير مسبوقة.