اتفاقات استراتيجية في عالم الطبيعة!

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

لا بُد وأنك لاحظت تساقط أوراق الأشجار في فصل الخريف بصورة ملحوظة، هل تساءلت يومًا، كيف يتم التخلص منها، ولماذا لا تتراكم فوق بعضها للسنوات المُقبلة؟

قد يقول قائل إن الجهات المختصة تقوم بجمعها والتخلص منها، وهذا يُمكن أن يكون صحيحًا لكن للطبيعة طريقتها الخاصة للتخلص منها بحيث لا يبقى لها أثر ولا رسم، فهناك كائنات حيَّة مخصصة للقيام بهذه المهام والتخلص من النفايات ليست النباتية المتمثلة في أوراق النبات المتساقطة فحسب؛ بل حتى الحيوانية، كما إن هناك كائنات تتخلص من جثث الحيوانات النافقة وحتى أجساد الموتى من البشر، فهذه الكائنات وظيفتها وظيفة البلديات في لغتنا المعاصرة!

ومن اللافت للنظر أن صنفًا من هذه الكائنات الحيَّة لم نتعرف عليه بصورة واضحة حتى ستينيات القرن الماضي، فلقد كنَّا نظنها نباتات من نوع خاص تنمو بصورة مفاجئة وسريعة وأطلق البعض عليها "النباتات الغريبة"، ولكن تبين لنا لاحقاً أنها تفتقر إلى بعض من أهم صفات النباتات. لقد لوحظ أن هذه الكائنات لا تمتلك الصبغة الخضراء "الكلوروفيل" التي تتميز بها النباتات ولذا فهي غير قادرة على تصنيع غذائها بنفسها، بل تعتمد على غيرها من الكائنات الحية في غذائها.

حسنا إذا كان الأمر كذلك فهي إذن من مملكة الحيوانات، ولكن لوحظ أنها لا تستطيع أن تنتقل من مكان إلى آخر فهي تبقى في مكانها ثابتة كالنباتات ولا تتحرك!

إنها كائنات بين النبات والحيوان ونطلق عليها الفطريات!

وعلى الرغم من أنها لا تصنع غذاءها بنفسها إلا أنها لا تأكل الطعام بالطريقة التي نتناولها نحن أو الحيوانات، فنحن نمضغ الطعام أولا ومن ثم يقوم جهازنا الهضمي بإفراز الإنزيمات اللازمة لهضمه، إلا أن هذه الكائنات تقوم بتناول الطعام بصورة معاكسة، فهي تفرز الإنزيمات أولا على الطعام الذي ترغب أن تتناوله بحيث يتحلل خارج جسمها ومن ثم تقوم بامتصاص المواد الغذائية التي تحتاج إليها، لذا فهي لا تحتاج إلى جهاز هضمي شبيه بالإنسان أو الحيوان!

  ومما يميز هذه الكائنات أنها لا تنمو في التربة فحسب بل تنمو أيضا في نفايات الأوراق والخشب حيث تحصل منها على العناصر الغذائية التي تحتاج إليها لنموها.

وفي عام 2003، وُجد أن أحد أنواع الفطر يغطي مساحة ضخمة في ولاية أوريغون في غابة مالهير الوطنية بالولايات المتحدة، إذ يغطي ما يفوق 1600 ملعب كرة قدم ويزن أكثر من 500 طن، كما ويقدر عمر هذا الفطر بأكثر من 2000 سنة، ولا نعني هنا أن هذا الفطر جسم مثمر واحد؛ بل هو مجموعة من الأجسام المثمرة من أصل واحد تغطي كل هذه المساحة، وإذا صح فرض أنه جسم واحد فإن ذلك سيعد أكبر الكائنات الحية على الإطلاق من حيث المساحة التي يغطيها.

وهناك أصناف مختلفة من الفطريات منها الفطر المعروف الذي نتناوله، وهناك أنواع أخرى منه تعد سامة ولا نستطيع أن نتناولها وهناك أيضا فطر الخميرة، لكننا نريد أن نسلط الضوء هنا على صنف آخر من الفطريات، هو من أغرب الأصناف على الإطلاق ويعرف بـ"الأشنات".

وحقيقة الأشنات أنه نوع من الارتباط والتعاون الوثيق بين نوع أو نوعين من الفطريات مع الطحالب أو البكتريا الخضراء المزرقة أو الاثنين معا، وتتمتع هذه الأشنات بقدرتها على النمو على مختلف الأسطح، كما أنها تتميز بأنها ذات أحجام مختلفة فبعضها يمكننا أن نراه بالعين المجردة وأخرى لا يمكننا أن نراها الا باستخدام المجاهر والمكبرات.

لكن ما هو سر التعاون والترابط الوثيق بين الفطريات والطحالب أو البكتريا الخضراء المزرقة، وهم من ممالك مختلفة من الكائنات الحية؟

السر يكمن في وجود مصالح مشتركة بينهما، فالفطريات لا تستطيع أن تكون غذاءها بنفسها كما ذكرنا آنفا، ولا تستطيع أن تتحرك من مكانها لتبحث عنه، ولذا فتقوم بعقد اتفاق مع الطحالب أو البكتيريا الزرقاء، وكلاهما لهما القدرة على إنتاج الغذاء ذاتيا بأن تقوم بتزويد الفطريات بالغذاء اللازم لنموها وتكاثرها وتوفر الفطريات مقابل ذلك بيئة مناسبة لنمو البكتيريا أو الطحالب وذلك بالحماية من الأشعة فوق البنفسجية التي تسبب ضررا كبيرا للبكتيريا الزرقاء أو الطحالب، كما تقوم الفطريات بحمايتها من الجفاف وذلك بتوفير بيئة رطبة.

إنَّ الاتفاقات الاستراتيجية وتوفير الأمن مقابل الغذاء لا يقتصر على الإنسان، فحتى الفطريات والبكتيريا تقوم بذلك، وقبل أن تطأ قدم الإنسان وجه الأرض!

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس