يا من أعدت انسجام الإنسان مع الوجود (1)

 

د. مجدي العفيفي

 

هنا.. في هذه المساحة ذات العمق الإلكتروني، لي في كل عام وقفة، أو قل هي نفحة من تجليات الشخصية المحمدية، التي يفيض نورها ولا يغيض ولن، ولا ينبغي له، منذ الإشراقة الأولى، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..

بعيدًا عن ثرثرة الحياة الدنيا اليومية، وفي روحانيات هذه الذكرى، وليس نحن الذين نحيي ذكراك يا رسول الله، إنما ذكراك هي التي تحيينا، وصدق الله العظيم القائل في مُحكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.) (سورة الأنفال: 24) تُحاول النفس أن تمارس مقامات «التخلي» و«التحلي» و«التجلي»؛ فتتخلى عن أشياء انتهى عمرها الافتراضي، لتتحلى بأشياء جديدة، على ضوء المتغيرات التي تطغى على كثير من الثوابت، ربما تتجلى بإشراقات، وإن صارت عزيزة، حيث يتصادم الشروق والغروب، أقضى الثواني ما بين «التجريد» و«التفريد» و"التوحيد" مسافات ضوئية، ومساحات صوتية، وخفقات وجدانية، واهتزازات وارتعاشات ومراجعات، من النفس الأمارة بالحب، لتتشبث بكلمة«الحب» قيمة وقامة، ومعنى ومبنى، وروحا وريحانا.

وفي رحاب هذه المقامات، يدثرتي صوت عظيم: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه) بلى.. أنت فينا يا رسول الله.. سمعنا وأطعنا، وإنه لشرف لو تعلمون عظيم، سواء أكانت طاعة متصلة، أم طاعة (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء: 80).

يتجلى نورك يا سيدنا، يا من أعدت انسجام الإنسان مع الوجود، في هذه المناسبة الكونية، كأجمل ما يكون التجلي في قلوب ملياري مسلم، وفي وهج هذا الضياء المحمدي نسلك عقدا جديدا، حباته تنتظمها تعددية الآراء التي تثري الرؤى، وتباين الأصوات يُعزز الصوت الأحادي، فالتداخل للتفاعل، والتحاور للتكامل، وصوتنا هنا يتجلى في صحبة ثلة من رجالات القلم والفكر والبحث والنقد والحرية، عربيا وإسلاميا، وشرقيا وغربيا، وإنسانيا وعالميا، سعيا إلى التحرك بين الأبعاد المتجاورة في رحاب منظومة شخصية محمد رسول الله والنبي الخاتم: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب: 40).

كثيرة هي أسرار جماليات الشخصية المحمدية، ثمَّة سر بديع في ضياء «اللهم صل على محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد، كما باركت على إبراهيم» ولم يقل كما صليت على موسى، لأنَّ موسى عليه السلام كان التجلي له بالجلال، فخر موسى صعقا، والخليل إبراهيم عليه السلام كان التجلي له بالجمال، لأن المحبة والخلة من آثار التجلي بالجمال، ولهذا أمرنا النبي الكريم أن نصلي عليه كما صلى على إبراهيم، لنسأل له التجلي بالجمال، وهذا لايقتضي التسوية فيما بينه وبين الخليل صلوات الله وسلامه عليهما، لأنه إنما أمرنا أن نسأل له التجلي بالوصف الذي تجلى به للخليل عليه السلام، والذي يقتضيه الحديث المشاركة في الوصف، الذي هو التجلي بالجمال، ولا يقتضي التسوية في المجالين، ولا في الرتبتين، فإنَّ الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقاميهما، وإن اشتركا في وصف التجلي بالجمال، فيتجلى لكل واحد منها بحسب مقامه عنده، ورتبته منه ومكانته، فيتجلى للخليل عليه السلام بالجمال، بحسب مقامه ويتجلى لسيدنا محمد بالجمال على حسب مقامه.

وضع ثلة من المفكرين والكتاب والمبدعين العرب والمسلمين والأجانب من أنحاء العالم وبلغات عديدة أطروحات كثيرة تنهل من معين شخصكم وشخصيتكم يا سيدنا، حتى ليصعب إجراء عملية حصر دقيقة لرفوف هذه المكتبة المحمدية. لماذا؟ لأن عمرها حوالي خمسة عشر قرناً، وهي مكتبة تتوسع مساحتها باستمرار، ورفوفها تقول هل من مزيد، ذلكم أن الشخصية المحمدية شخصية ذات أعماق بعيدة، دائرية النظرة والمنظور، وكل من يقترب من أطرها تنتظمه الرؤية التي ينظر بها، والأرضية التي يقف عليها، والزاوية التي يشرع منها قلمه، وعلى رفوف المكتبة المحمدية، تتألق مجموعة من المؤلفات لأصوات فكرية، أصحابها قمم وقامات تتبارى في سباق الاستلهام من ملامح شخصية النبي الكريم ومعالم شخصه الكريم، كل ينظر من موقعه من الشمس المحمدية.

من بديع التوصيفات لكتابات رجالات الفكر، رأي للمفكر أحمد أمين في وصفه لطريقة عباس محمود العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ود. محمد حسنين هيكل، عندما تحدثوا عن سيدنا محمد- صلى الله عليه وملائكته- فهم جميعا كتبوا عن الرسول، ولكن كل واحد له طريقته.

طه حسين يمشي إلى جوار النصوص التاريخية، ينقل منها ويحلل، دون أن يعرض عليها شيئًا، والحكيم يمشي وراء الأحداث التاريخية، يروي ويكتب ويسمع ويحاور، وقد يسبقه النص، ولكن الحكيم لا يحاول اللحاق به، إنه مشغول بالحديث عنه، ود. هيكل يترافع عن الجميع أو ضدهم، سواء من الكتاب العرب أم من المستشرقين، إنه محامٍ قد اتخذ قضية هي (الرسول والقرآن والرسالة) وقد قرر منذ البداية أن يكسب هذه القضية، وقد كسبها، أما العقاد فهو يمشي أمام النصوص التاريخية، يضع لها خطة وبرنامجا للسير نحو الهدف الذي يريد.

ويظل كتاب عباس محمود العقاد «عبقرية محمد» على رأسه مجموعة العبقريات الخمس، التي تشكل منظومة غير مسبوقة، ولم يصل إليها مفكر حتى الآن (عبقرية الصديق، عبقرية عمر، عبقرية علي، عبقرية خالد)؛ فالعبقريات في جوهرها ليست سردا لأحداث تاريخية، أو لأحكام الإسلام، بقدر ما هي إظهار للعبقرية العربية أنجبت هذه الشخصيات، وكتاب العقاد هو تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى، فمحمد هنا عظيم، لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس، عظيم؛ لأنه على خلق عظيم، وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة، وبين كل قبيل، ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى.

وحسبنا مع العقاد من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدًا عظيمٌ في كل ميزان، عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إن التعظيم حق لـ«عبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد، لأن العبقرية قيمة في النفس، قبل أن تُبرزها الأعمال وهي وحدها قيمة يُغالى بها التقويم، فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة؛ فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم.

ونتواصل مع أطروحات مكثفة، لكنها واسعة السعة، لأشهر نظرات ونظريات الكتاب والمفكرين في العالم عن سيدنا محمد، وكيف أعاد انسجام الإنسان مع الوجود كله.