عالم ما بعد "كورونا" وأوكرانيا

 

 

 

تعاظم اليمين في أوروبا عبر بوابة إيطاليا وعودة اليسار تدريجيًا عبر بوابة كولومبيا، ليس صدفة أو ردة فعل عابرة

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

مقولة: "العالم قرية كونية" صحيحةٌ إلى حد كبير فيما مضى من الزمن، ولكنها اليوم وفي ظل تشابك العالم بما سُمي بثورة الاتصالات وفي زمن الاستعمار التقني بالتحديد، أصبحت تلك المقولة حقيقة معاشة وبأدق معانيها وتفاصيلها.

لهذا أصبحت تأثيرات الأحداث العالمية أسرع وأشمل مما مضى من الزمن ومن ينال نصيبه من التأثير ناله نصيب من التداعيات والارتدادات.

حين نشبت الحرب الأوروبية الأولى المُسماة بالعالمية (28 يوليو 1914- 11 نوفمبر 1918م) والتي سُميت بالحرب العظمى حينها، اعتقدت الشعوب التي خاضتها أنَّها ستكون نهاية العالم، بينما أكثر من ثلاثة أرباع سكان الأرض وجغرافيتها لم يشعروا بتلك الحرب حين بدأت ولا حين انتهت. فكان من ثمرات تلك الحرب إقامة ما سُميت بمنظمة عُصبة الأمم وهي النواة الأولى لمنظمة الأمم المتحدة حاليًا، وكان المرجو منها حل الخلافات بين الدول سلميًا وتنظيم العلاقات بينها وتطبيق قواعد الدبلوماسية الأممية.

لم تصمد عصبة الأمم طويلًا ولم تنجح في مهامها بسبب غطرسة الكبار ومدمني الحروب؛ فكانت النتيجة قيام الحرب الأوروبية الثانية (الحرب العالمية الثانية هي حرب دولية بدأت في الأول من سبتمبر من عام 1939م) في أوروبا وانتهت في الثاني من سبتمبر عام 1945م، شاركت فيها أو تأثرت بها الغالبية العظمى من البشر كون الحرب فُرضت على المستعمرات وجُيش أبناؤها قسرًا في عداد جيوش القوات المُتحاربة، كما عرفت تلك الفترة نوعًا من التعاون الدولي والانفتاح المحدود بين سكان القارات الأخرى مع أوروبا الأمر الذي شكل مجاعات وأضرارًا وتداعيات خطيرة على بعض البلدان نتيجة تهديد الحرب لخطوط الملاحة الجوية والبحرية وتأثيرها على صادرات الإنتاج الغذائي والتصنيع بشكل كبير.

تمخض عن هذه الحرب قيام منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المتفرعة عنها وصدور القانون الدولي عام 1949م وهو عبارة عن مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول التي تدعي لنفسها السيادة ولا تعترف بأي سلطة أعلى منها، ثم أتى القانون الدولي الإنساني ويشمل القانون الإنساني الدولي على المبادئ والقواعد التي تنظم وسائل وأساليب الحرب، فضلا عن توفير الحماية الإنسانية للسكان المدنيين، والمقاتلين المرضى والجرحى. جميع تلك المنظمات والقوانين تحمل في ظاهرها عمق معاناة البشرية من الحروب وويلاتها وتعبر عن مدى الحاجة للتخفيف من وطأتها وتحجيم آثارها ومدى الحاجة الأكبر لمنع قيامها وتنظيم العلاقات بين دول العالم بصور أقرب إلى التعاون والتكامل. ولكن سرعان ماتهدأ تلك المشاعر الإنسانية ويعود الحنين للحروب وكوسيلة لغنم المصالح وتوسيع رقعتها.

جائحة كورونا والأزمة الأوكرانية اليوم برهنتا على أن العالم قرية كونية صغيرة جدًا، وإن الحاجة إلى التعاون والتكامل والصراع من أجل التفوق والتميز بالطرق السلمية، من أمضى الأسلحة وأفتكها، والدليل اليوم الحاجة الماسة للبشرية واندفاعها المسعور نحو تصنيع اللقاحات وتحقيق الأمن الغذائي وبدائل الطاقة؛ حيث شعر العالم بأن العزلة والانكفاء على الذات في لحظة تاريخية ما، هما الخيار القهري لبلد أو بلدين ما نتيجة تفشي أوبئة أو اندلاع حروب ذات أبعاد جغرافية وسياسية واقتصادية مكلفة ومتشظية.

في تصوري أن تعاظم اليمين في أوروبا عبر بوابة إيطاليا وعودة اليسار تدريجيًا عبر بوابة كولومبيا، ليس صدفة أو ردة فعل عابرة؛ بل ولادة لقناعات لدى هذه الشعوب من رحم معاناة التبعية والتي فجرتها جائحة كورونا وتوجتها الأزمة الأوكرانية؛ حيث اكتشفت العديد من البلدان خطيئة انجرارهم خلف هذه المنظومة أو تلك وخطيئة وهشاشة بعض التحالفات الورقية حين أختبرتها الأحداث وصقلتها التجارب الميدانية.

تشكلت حركة الخضر أو ما يعرف بالسلام الأخضر في ألمانيا في سبعينيات القرن الماضي من قبل شباب ألمان استشعروا حجم مأساة البشرية والبيئة من الحروب ومقدار إسهام بلادهم في هذه الكوارث في العصر الحديث، فكانت الحركة بمثابة غفران وصحوة ضمير منهم واعترافًا بخطيئة ومسؤولية بلادهم، والعالم اليوم ستتشكل به حركات صحوة ضمير وعقل كثيرة تلافيًا لكوارث لا تبقي ولا تذر.

قبل اللقاء.. السياسة لعبة خطيرة جدًا ومن الخطأ أن يُترك شأنها للساسة وحدهم.

وبالشكر تدوم النعم.