درء المفسدة أولى من جلب المنفعة

 

أنيسة الهوتية

الإنسانُ مِثلهُ مثلَ سائِر المخلوقات من حيوان وطير وحشرات يضعُ مصلحتهُ الشخصية ومنفعته الخاصةِ فوق كل شيءٍ، خاصةً إذا كانت المصلحةُ منطقية وشرعية وقانونية فإنهُ سيتشبثُ بِها دونَ تنازل.

والطبائعُ هُنا ثلاثة: إنسانٌ يتعدى على القانون والشرع والإنسانية لأجل مصلحته الخاصة ورغباته وملذاته وراحته. وإنسانٌ يخشى القانون ويتقي الشرع ولا يقرب الناس بأذىً، إلا أنهُ يُطالب بكلِ مصلحةٍ تحِقُ له قانونيًا دون مُسامحةٍ حتى وإن كانت فيها مضرة لشخص آخر. وإنسانٌ نادرٌ جِدًا، يتنازل عن حقهِ إتقاءَ خُصومةٍ، أو فتنةٍ، أو خشية أن يكون في فعلهِ أذيةٌ لشخصٍ آخر! وهذا يَكونُ مُتمسكًا بقانونٍ شرعيٍ إنساني يقول: "درءُ المفسدةِ أولى من جلب المنفعة"، وهذا القانون يندرج تحت مظلةِ تقوى الله، كما قال تعالى: (فاتقوا اللهَ ما استطعتم) (التغابن: 16).

ومِثالٌ على التطبيق وعكسه:

رَجلٌ- والرجل من المُمكن أن يكون امرأة، فالرجولة ليست نوعًا إنما أفعال- رزقه الله خيرًا كثيرًا مُباركًا طيبًا، وورِثَ سَهمًا مِن بيتٍ يعيشُ بهِ أيتامٌ لا ظِلَ لَهُم ولا مكان آخر يحتويهم غير ذلك البيت، فرفض أن يُباع البيت حتى لا يتشتت من يقيمون بهِ. وعكسهُ من أصر على بيع البيت لأنهُ حقه شرعًا، دون أن يهتم بأمر الأيتام وأن نصيبهم من البيعة لن يوفر لهم ولا نصف منزل!

أحيانًا يجب على الإنسان التنازل عن بعضِ حقوقهِ حتى يتعايش بسلامٍ وأمانِ مع الآخرين، ويدرءَ الفساد الذي لربما سيطرأ من تلك المنفعة -وحبل الحياة يجب أن يُعامل بشدٍ وإرخاء، فالشد الدائم سيتسبب بقطعه، والإرخاء الدائم سيتسبب بتسيبه-

وبدون التنازلات فإنهُ لن يكون أفضل تصرفًا من الحيوانات، وَفي بعض المواقف الحيوانات تكون أكثر رحمةً مِنه! وأود أن أذكر هنا موقفًا طريفًا رأيتهُ حين كُنَّا في إجازة أسبوعية بإحدى المزارع، وبعد أن تناولنا "الفوالة" وجدنا أن البطيخ طعمه حامض قليلًا، فرميناهُ كلهُ بعدما قطعناه بجانب سلة المهملات حتى تأخذه الحيوانات وتستفيد منه مع باقي القشور، وفجأة رأينا غُرابًا يحوم حول البطيخ، أخذ قضمةً ثُم حَلَقَ بعيدًا وهو ينعق بصوتٍ عالٍ، ثُم أتى مرةً ثانية، ثم الثالثة، وبعدها أتت مجموعة من الغربان أخذوا يلقمون من تلك البطيخة إلى أن لم يبقَ مِنها شيء، وكانت هناك طُيورٌ أخرى حاولت أن تأخذ نصيبها إلا أنَّ الغربان لم تسمح لها بذلك وظلت تُحاوط البطيخة إلى أن انتهوا منها! وِعندما يفعل الإنسان ذلك، لمصلحته، ومصلحة قطيعه فإنِّهُ لا يختلف عن تلك الغربان أبدًا.

عِندما يطمع الإنسانُ للمنفعة التي تجذب المفسدة لغيرهِ فإنه لامحالة سوف يبقى قابعًا في مكانه عند نقطة الصفر مهما تصور بأنه مُتقدمٌ في المسير، ومهما توالت عليهِ الأموال، والمناصب، وغيرها الكثير من نعيم الدُنيا المُزالِ مِنه البركة وراحة النفس والضمير.

وعلينا عدم الاستماع للمنتقدين، فعندما لا يعارض الابن والديهِ في أُمورٍ يراها حقا من حقوقه، وَيرون فيها مفسدة مُتسترة فإنه يدرؤها بِبرهِ لهم وُهنا سيكون ابنًا بارًا وليس شابًا بلا شخصية.

عندما تتنازل الزوجة عن بعض حقوقها لزوجها غير المُقتدر، فإنها تدرأ مفسدة البغضاء والمشاحنات في عِش زوجيتها، وتُبقي الأُلفة والمحبة بينهما، وتكون زوجةً عاقلة وليست زوجة مُستعبَدة.

عندما يتساهل الزوجُ في الشدِ مع زوجته في كل كبيرةً وصغيرةً مُراعيًا تعبها، ويتخلص مِن عقدة "سي السيد" فإنهُ يكون زَوجًا مُحبًا لزوجته لا يرضى لقلبها الحزن والأسى كما وصاهُ الله تعالى ونبيه الكريم.

وختامًا أؤكد مجددًا أن قاعدة "درء المفسدة أولى من جلب المنفعة" فيها سلامٌ كثير.