ناصر أبو عون
طريقان لا ثالث لهما في البحث عن الحقائق التاريخية؛ إمّا أن تقوم بزيارات ميدانية، وإمّا أن تُنقّب في رُزنامة السجلات الحكومية، ومكانز هيئات الوثائق والمحفوظات الوطنيّة حول العالم، والأراشيف العائلية الخاصة، ومقتنيات محققي المخطوطات أو الجمع بين الطريقين في إطار المنهج التكامليّ مع التوسل بأدوات (التحليل الوصفي) و(الباطني)، فضلا عن القبض على آليات ومناهج ووسائل البحث التاريخيّ.
وتأتي هذه التقدمة آنفة الذكر كمدخل للحديث عن وثيقة من مقتنيات (وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان) اطّلعنا على مضمونها أثناء تعقّبنا- بالبحث والدراسة- لآثار قبيلة الطائيين؛ فوجدناها تضم وصيتين للسيدة ثريا بنت محمد بن عزان بن علي بن خلفان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن خلف بن سعيد بن مبارك البوسعيدية، والوصية الثانية ناسخة للوصية الأولى، وهي مؤرخة في السابع من رمضان (1332 هجرية، الموافق الثالث من يوليو عام 1914 للميلاد)، ومن شهودها: الشيخ صالح بن عامر بن سعيد الطيواني- والد الشيخ الشاعر عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط، والسيد نادر بن فيصل، وسعيد بن مسلم بن سالم المجيزي (أبو الصوفيّ)، وموثّقة بخاتمين؛ الأول للسلطان تيمور، والثاني خاتم قاضي المحكمة الشرعية بمسقط.
والسيدة ثريا البوسعيدية امرأة عُمانيّة زاهدة عابدة من زمرة المتصدّقين المنضوين تحت راية ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، تربّت في أكناف بيت شرف وسؤدد، من نسلِ ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [البقرة: 274]؛ فإذا ما شبّت عن الطوق وصارت صاحبة عصمة وذمّة مالية متفردة بسطت يدها فأوقفت أملاكها، وأنفقت ريع رساميلها على رعاية طلاب العلم الشرعيّ ومشايخهم، وعمارة بيوت الله؛ لذا رخّصت للشيخ سليمان بن زهران الريامي [(1338– 1373 هجرية)/ (1920-1954)]- مقابل أجرة- بالوكالة عنها في توزيع المخصصات الشهرية على طلبة العلم بـ"مسجد الوكيل". وقد أوقفت لهذه الغاية السامية مقصورتين تُدرَّانِ رِيعًا لا ينقطع؛ فأمَّا المقصورة الأولى فمشهورة في السجلات الآثاريّة بـ"مقصورة الرّمامين"، وأمّا الثانية فمعروفة باسم "مقصورة خرس الملح" الكائنة بوادي بوشر، وهناك مقصورة ثالثة أوقفتها لمسجد (المقحم) المجاور لبيتها الكبير.
أمّا عن نسب السيدة ثريا بنت محمد بن عزان البوسعيدية؛ فقد وجدناه مثبوتًا في (كتاب الطالع السعيد، ص: 316)؛ فهي تجتمع في شجرة واحدة وجذر أصيل من نسب سلالة البوسعيديين الأصلاء عصبةً وبطنًا مع الإمام أحمد بن سعيد البوسعيديّ في: خلف بن سعيد بن مبارك البوسعيديّ، وتتصل بنسبها شرفًا وأرومةً ونسلًا طيّبًا طاهرًا إلى "السيد الوكيل"؛ وهو عَلَمٌ شهير، من رجالات عُمان الأصلاء عاش ما بين القرنين الثاني والثالث عشر الهجريّ، واسمه خلفان بن محمد بن عبد الله بن محمد البوسعيدي، ومن نسله تحدّر شيخ الفقهاء الزاهدين في زمانه وعلّامة عصره ومُصلِح أهل زمانه الشيخ مهنا بن خلفان بن محمد البوسعيدي، صاحب الترتيب العلميّ والموسوعيّ لمصنّف "جامع ابن جعفر".
وقبل 300 سنة ونيّف وتحديدًا في القرن الثامن عشر الميلاديّ الثاني عشر الهجريّ، رسمت السيدة ثريا البوسعيدية للبنائين العُمانيين أمرًا بتشييد "بيت كبير" في منطقة المقحم، تتخذه مسكنًا لها؛ لذا اشتُهر بين عامة الناس من أهل ولاية بوشر- في الزمن الذي مضى- باسم "البيت الكبير"، وصار هذا اللقب مُتَداولًا على سائر الأجيال المتعاقبة، وذلك لِعَظمِ محيطه الخارجي، واتساع مساحته الداخلية؛ فصار الأبرز داخل حارة فلج العين؛ لا يطاوله ولا يبزّه بنيان آخر في تخطيطه الهندسي، وتكوينه المعماريّ الذي جمع بين الطراز المدنيّ العُمانيّ، والحصون العسكرية المنيعة.
فإذا ما شرعوا في تشييده؛ عكفوا حينًا من الدهر على انتقاء وجمع أحجاره من الجبال الصخرية المحيطة به، وترصيصها في أسواره، وبرجه الحربيّ وسائر حيطانه مع تكسيتها بالجلاميد الصخرية الصغيرة والمتوسطة وتجصيصها بمادة الصاروج العمانيّ.
فعندما تطل على "بيت السيدة ثريا" من أعالي جبال بوشر، وكثبانها الرملية الشاهقة يتبدى لك على شكل "قلعة صغيرة" تتوسط البساتين والحقول الخصيبة، بينما ينتصب برجه العسكريّ الوحيد المفرد في زاوية تتوسط ضلعيه الشماليّ والغربيّ بارتفاع شاهق يصل إلى (16.35) مترا وهو يتألف من ثلاثة طوابق منتظمة، وطابق رابع اسطوانيّ الشكل محاط بسياج من الشرفات الحربيّة يشبه مقصورة عسكرية برؤوس مدببة، تتخللها فتحات للمراقبة والرّمي بالسِّهام.
فإذا ما دلفت إلى بوابته العتيقة، وهي مازالت على بنيتها التكوينية الأولى تجد نفسك واقفا في باحة كبرى وسيعة البراح، وهناك آثار لحظيرة كبرى كانت مخصصة للخيول العربية الأصيلة، وعلى مقربة منها بئر عميق، وقناة مائية كانت جزءًا أصيلا من فلج العين قبل أن يتم تحويل مجراه ليأخذ طريقه خارج أسوار البيت فيبعث الحياة في المزارع المحيطة، والحدائق البوشرية الغناء.
أمّا إذا أمعنت النظر في تصميمه المعماري البديع، وتأملت الأروقة الفسيحة، ذات المداخل الوسيعة، ومساقط الهواء، ومصادر الإضاءة الطبيعية، وسماكة الجدران، وارتفاعات الحوائط، وبِنية الدراويز والنقوش انعكست في مخيلتك أبعادا جمالية ووظيفية لهذا المعلم الأثريّ؛ حيث يحتوي المبنى على ثلاثة طوابق ليست مكررة، فتجد في الطابق الأرضي "دهريزًا" تنفتح عليه حجرات أربعة، وكأنّ الغرفة الأولى تمّ تخصيصها لتكون مخزنا للغلال والمؤن ومتطلبات الإعاشة؛ هذا إلى جانب اشتمالها على فتحة سفليّة لقبوٍ، تتصل بـ"خندق أرضيّ" تتواتر الروايات عن امتداده خارج البيت لمسافة 25 كيلومترًا، وربّما كانت فلسفة حفره تتناسب والمهمة العسكرية للبيت الذي جمع بين وظيفتي (الحصن العسكريّ) و(السكن المدنيّ). وهنا نشير إلى أن الاسم الأصلي للبيت هو "البيت الكبير" وليس كما يشيع بين الناس بأنه "بيت المقحم".
وعند صعودك إلى الطابق الثاني ستجد نفسك واقفا بين رواقين (شرقي وغربي)، وفي كل رواق غرفتان يتوسطهما بهو واسع مكشوف كُلّيّةً غير مسقوف بطول (12.40) مترا، أمّا الطابق الثالث والأخير فهو يتألف من حجرة واحدة تقع في الناحية الجنوبية الشرقية، يُقال إنها كانت المأوى المفضّل والمخصص لسيدة البيت الكبير، وربّما لأنها امرأة محسنة عابدة زاهدة فضلت هذه الحجرة لتكون بمثابة "الخلوة الروحية" التي تنفتح على سطح واسع عظيم تطل عليه السماء برحماتها، وتتصاعد منه مناجاتها لربّها، وتطل من شرفات سياجه الحربية ذات الرؤوس المدببة في جلسات صفاء تأمليّة ومحاورات روحيّة على العالم المحيط بها.