فلسفة التعليم وواقع سوق العمل

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

التعليم الحقيقي القائم على المنهجية العلمية وعلى المبادئ الأخلاقية السليمة النابعة من قيم المُجتمع يمثل أساس تطور الأمم والارتقاء بشعوبها؛ حيث إنَّ حرية الاجتهاد والتدبر وتشجيع العلماء والباحثين على الإنتاج الفكري، من أهم مقومات المعرفة الأصيلة التي يستفاد منها وتنفع البلاد والعباد.

وتربية الأجيال وإكسابهم مهارات التعلم من خلال وضع طرق علمية وأسس معرفية، بمثابة البداية الحقيقية لترسيخ العلم واستدامة المعرفة وخلق قوى بشرية قادرة على إدارة الموارد الوطنية للدولة، وجعل الاقتصاد الوطني يُنافس في المحافل الدولية. من هنا، تختلف سياسات التعليم وفسلفة المناهج التربوية التي تضعها المجالس المختصة والوزارات والجامعات المعنية بتأهيل الكوادر الوطنية وصقلها من أجل المستقبل، من دولة إلى أخرى. فهناك من يتشبث بربط التعليم بسوق العمل، لتحقيق أهداف وطموحات الأجيال التي قضت أكثر من 12 سنة في التعليم العام؛ ثم واصلت التعليم الجامعي لفترة أكثر من أربع سنوات؛ لكي تظفر بالوظيفة التي من المفترض أن توفر مصدر رزق للشخص الذي أنهى الدراسة الجامعية بنجاح بعد رحلة كفاح وجهد وسهر ليال طويلة، بينما على الجانب الآخر من يميل إلى فتح الأبواب على مصراعيها، ويعتبر أن اكتساب المعرفة والتعلم في أي مجال فكري أو تخصص علمي، غاية وقيمة بذاتها بعيدًا عن سوق العمل. وهنا يكون فك الارتباط بين السوق والتعليم.

وأتذكر في تسعينيات القرن العشرين وبداية عقد الألفية الجديدة، أعلن المعنيون بالتخطيط في هذا البلد عن ربط التعليم بسوق العمل؛ إذ تم تقليص أعداد المقبولين في التعليم الجامعي، بهدف السيطرة على الذين يحملون الشهادات الجامعية، لكي يتم توظيف هؤلاء في القطاعين الحكومي والخاص عند تخرجهم، فقد عقدت المؤتمرات والحلقات النقاشية في أروقة الوزارات المختصة والمؤسسات التعليمية في ذلك الوقت، وتركزت اهتمامات صناع القرار في البلد على التدريس باللغة الإنجليزية في معظم التخصصات الموجهة للسوق المحلية، باعتبارها العصا السحرية التي سوف تحل مشكلة المخرجات الجامعية، ولكن لم تنجح هذه السياسة على الإطلاق؛ إذ كانت هناك تحديات كبيرة واجهت الطلبة الذين التحقوا بمراكز اللغات سواء كان ذلك في جامعة السلطان قابوس أو الكليات التطبيقة التي كانت تتبع وزارة التعليم العالي، والتي استوردت مناهجها من نيوزيلندا، ولم تكن مناسبة للسوق العُمانية، بينما كانت الكليات التقنية التي تشرف عليها وزارة القوى العاملة سابقاً في مختلف مناطق السلطنة تعاني من تسرب أعداد كبيرة من طلبتها الذين يتم قبولهم، لكن سرعان ما يخرجون من الأبواب الخلفية لتلك الكليات، وذلك بسبب الفشل في اجتياز اختبارات اللغة الإنجليزية التي تؤهلهم في العديد من التخصصات المرتبطة بالسوق؛ كالإدارة والمحاسبة والهندسة والبرمجيات؛ فسنوات التعليم العام لم تكن كافية لولوجهم وإلمامهم بهذه اللغة الأجنبية التي يروج لها النخب وكبار المسؤولين في دولنا، دون إدراك للواقع الحقيقي لمخرجات التعليم العام الذي يعاني من ضعف ليس فقط في اللغة الإنجليزية؛ بل وحتى اللغة العربية نفسها، في الوقت الذي يجب الانفتاح على تجارب أخرى ناجحة في مجال التعليم الجامعي، مثل الألمان واليابانيين والفلنديين والمتمثلة في ترجمة العلوم والمعارف الجديدة إلى تلك اللغات مباشرة ثم تضمينها في المناهج الوطنية باستخدام لغة الأم، وذلك من خلال رفد المناهج الوطنية في هذه الدول بالجديد من الابتكارات والمستجدات التي يجود بها المخترعون والتربيون حول العالم.

لا شك أن العلم نورٌ، وكل التخصصات مفيدة للإنسانية وعلى وجه الخصوص؛ لطلبة العلم بالدرجة الأولى، خاصة إذا كانت عن رغبة واختيار من أصحاب العلاقة بعيدًا عن التوجيه الوظيفي الذي يقتل الإبداع ويقلل من العلماء والمفكرين. كما إن هناك إهمال وتقليل من شأن العلوم الإنسانية لدى البعض من أصحاب النظرة الضيقة، بزعم التركيز على التخصصات العلمية التي يعتقد بأنها أكثر فائدة للمجتمع. وغاب عن هؤلاء أهمية المجالات الأدبية التي ترتقي بالأفراد وتعمل على السمو بالفكر الإنساني ودراسة واقع المجتمعات وتطورها وآليات النهوض بها نحو المستقبل المشرق.      

إنَّ التقليد الأعمى للغرب واعتبار اللغة الإنجليزية الخيار الأمثل وجواز السفر أو التأشيرة للحصول على الوظيفة في قطاعات سوق العمل المحلية في دولنا الخليجية، قد مُني بالفشل، وذلك للأسباب التالية: أولًا عند التحاق الطلبة المستجدين بالجامعات والكليات، كان التحدي الرئيسي صعوبة هذه اللغة وعدم وجود دافع لدراستها. ثانيًا: أكدت التجارب أن الأعداد القليلة من الطلاب الذين صمدوا واستمروا حتى نهاية المشوار الجامعي وحصلوا على الشهادة أو التخصص الذي يُدرّس باللغة الإنجليزية لم يُحالفهم الحظ جميعًا في الحصول على الوظائف التي يزعم المنظرون أنها مضمونة.

وفي الختام.. لقد حان الوقت لتطوير التعليم العام ليكون الأساس الحقيقي والجسر الذي تعبر من خلاله الأجيال للولوج إلى التعليم الجامعي بنجاح بخطى ثابتة نحو المستقبل، وذلك لنخرج كوادر متعلمة سلاحها المعرفة والثقة بالنفس للمنافسة في الأسواق العالمية وخاصة في دول مجلس التعاون الخليجية لوجود مظلة قانونية معتمدة منذ سنوات طويلة من الملوك والأمراء قادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتحتاج إلى تفعيل حقيقي من المسؤولين للسماح لأبناء الخليج بالعمل في الدول الأخرى غير الدولة الأم بنفس الحقوق والمزايا التي يتمتع بها المواطن في دولة مقر العمل في القطاعين العام والخاص.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة