جدلية فرض المنطق

 

فاطمة الحارثية

 

جميعنا نعتمد على المنطق في صياغة قراراتنا، فلولا الاستدلال السليم، للحجج والمناهج الفكرية لما استطعنا صياغة ما نتلقاه من علوم ومعلومات، ورفدها إلى ضفاف الوعي والاستفادة منها، سواء في نسج الأعمال أو وضع الخطط أو إيجاد الحلول، أو أي ما كان استخدامنا لها في سبيل المواءمة مع الحياة والبقاء عليها، وبما يناسب الاندماج مع الفهم العام والنهج المتسق لحاجاتنا وعلاقاتنا.  

قد نقول في حوارنا مع بعضنا البعض: "أنت فاهم لكن ما مستوعب"، أو قد يقول أحدهم: "أنا فهمت، لكن ما تخيلت أو استوعبت أن الأمور ستؤول إلى هذه النتيجة"، إذا ثمة فجوة واضحة ومهمة بين الفهم والاستيعاب، فهل تتفق؟ قد يؤكد لنا العلماء أن العقول لها بصمتها ولا تتشابه في عملياتها، وآليتها في تجميع المعلومات وتحليلها، لذلك نجد أن الغموض سيد المواقف، فابتدع البشر معايير لقياس تلك الفروقات؛ لكن كل ما استخلصناه منها يبقى في حيز ذات العمليات المعقدة لعقل وفكر الإنسان، وعدم إدراك ذلك يقود إلى سوء الأحوال فنبدأ بإعادة محاولات الفهم، والبدء بتفسير المواقف بصورة دفاعية، وقد تتشكل عمليات لوم الآخر أو لنقل تحجيم بعضنا البعض، بدل النظر إلى جوهر قيمة الاختلاف، والتميز في عملياتنا العقلية والفكرية وأبعاد خصوصيتها.   

 

مازلنا نندهش بالرغم مما قطعناه من صولات وجولات، على أزقاق هذه الأرض شرقها وغربها، ومازالت مراحل العمر تشن علينا مناهجها، وكل مرحلة عمرية تكشف لنا معاني الحكم التي أورثها لنا السابقون، الأكثر دهشة تجدد تلك المعاني رغم ثبات المثل أو الحكمة. نعيش في لعب ولهو وكلاهما يحمل قيمة مختلفة بيننا، ومفهوم يتجسد في عقل دون آخر، والتأمل باب من أبواب قبول تلك الاختلافات، والبحث عن منافذ الاستمرار فيها، هو نوع من أنواع التأقلم وقبول الآخر دون امتعاض، أو محاولات فرض منطقنا عليه أو لنقل طرقنا الخاصة، إن ترك الناس على سجيتهم أمر مبالغ فيه عند بعض النَّاس، لكن في اعتقادي أن البيئة لها دور أساسي في صياغة منهج تلك السجية، وبما أن النفس هي من تصنع مشاعرنا، وعقولنا من يوجه تلك المشاعر، يتحتم علينا فعلياً أن نأخذ بأصل الشي، ونعالج الأصل لا الظاهر، أي بمعنى معالجة فكرنا وتقويم النفس بدلا من الغوص في المشاعر وترك أصل الأمور.

المنطق هو مرادف للحجج، لكن قبولها يعتمد على تنوع تلك الحجج، بسبب التنوع الفكري لعملياتنا العقلية، ومكمن الاختلاف؛ وهذا الاعتقاد يولد معي الكثير من الصدام مع الآخر، لأنني أنظر نحو أصل الشيء عند الحديث، واطرح الحلول بناءً على ذلك، مما يؤثر سلبا على استقبال المتلقي لما أتحدت عنه، وقد يصل عند البعض أنهم يضعونني في تصنيف "لا تعلم" أو حتى "لا تفهم" الموقف، لأنهم بكل بساطة ينظرون إلى أعراض المشكلة، والتي غالبا علاجها ليس ذات علاج الأصل؛ وهذا قادني إلى بعض السلوك وهو ترك الجاهل في جهله، وفهم أصل نعمة الصمت، وعدم الخوض في الحوارات المفتوحة، أو الحلول المادية فهي كثيرة لكنها ليست حقيقية؛ صحيح أن الكثير من الناس يتحدثون وينادون بحل أصل المشكلة، لكنني أعتقد أن القليل جدا جدا من يستطيعون الوصول فعليا إلى أصل المشكلة، ربما بسبب التلقين المبهم من المناهج المركبة، وبُعدنا عن العناصر التي صنعت تلك المركبات، وربما لاستسهال الناس عمليات التخلص من الأعراض، مقابل صعوبة الوصول والتخلص من أصل المشكلة، وربما الأصل كان مبتكرا منذ البداية لإلهاء النَّاس وإبقاء البعض حاجة وسُلطة.

 

سُّمو...

التنازل عمَّا قد اعتنقته من بعد جهد ونور، هو كالخارج من عمق بئر لظلمات محيط، عنان الأمر ليس كماله، إنما الكمال تيه يتشبث بالشفاه فيمرضها.