أنور الجندي.. الكاتب والأديب الموسوعي (2)

 

عبد الله العليان

 

بدأت حياة الكاتب والأديب الأستاذ أنور الجندي، في الكتابة الأدبية والفكرية، أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، وهي فترة من أخصب وأروع الفترات التي شهدتها مصر الكنانة في النصف الأول من القرن الماضي، في تعاطيها مع الأدب والنقد والرواية والقصة، وغيرها من الأعمال الأدبية العربية، كما إنها الفترة التي برزت فيها النهضة الأدبية والفكرية، مع الحوارات والمساجلات النقدية والأدبية في الجامعات والكليات والأندية الثقافية المتعددة، والتي تجلّت فيها حريات الأجناس الأدبية المختلفة.

ولا شك أنَّ الأستاذ أنور الجندي، كان أحد الفاعلين والمشاركين في هذه النهضة الأدبية بكتاباته الأدبية والنقدية، وكانت البداية الحقيقية له كتاباته في مجلة "أبولو" الشهيرة، التي أسسها ورأس تحريرها د. أحمد زكي أبو شادي عام 1932، وكتب فيها الجندي، وكان عمره 17 عامًا، ثم بدأت اهتماماته الأدبية والنقدية. يقول الجندي عن انطلاقته في هذه الفترة الخصبة في حركة الأدب والنقد: "وبدأت أقف في الصف: قلمي عدتي وسلاحي من أجل مُقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي، غير أني لم أتبين الطريق فورًا، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثين عامًا.. كانت وجهتي الأدب، ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق.. هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها، في تحولها وتطورها". ومن هذه المنطلقات بدأ أنور الجندي نشاطه الفكري، وفي ميدان الأدب، في وقت بلغ الاختراق الفكري الغربي والاستشراقي حدًا واسعًا من التحرك للاستتباع، وكان هذا الميدان- الأدب- أكثر الميادين نشاطًا للحركة التغريبية والاستشراقية.

ومن مؤلفاته التي أصدرها في الجانب الأدبي: "معالم الأدب العربي المعاصر"، و"خصائص الأدب العربي"، و"أضواء على الأدب العربي المعاصر"، و"الشبهات والأخطاء الشائعة في الأدب والاجتماع والتاريخ"، و"الفصحى لغة القرآن"، و"صفحات مجهولة في الأدب العربي"، و"أكذوبتان في تاريخ الأدب الحديث"، و"أضواء على حياة الأدباء المعاصرين"، و"جيل العمالقة والقمم والشوامخ في ضوء الإسلام". ويقول الأستاذ الجندي في مقدمة كتابه "أضواء على الأدب العربي المعاصر": "عندما اهتممت بالبحث في الأدب العربي فإنني:"شغلت نفسي بدراسة الأدب العربي المعاصر منذ عام 1939، عندما أصدرت كتابي (عرائس البكارى) أول إنتاجي، يضم مجموعة دراسات في نقد الشعر والنثر والقصة، وهي دراسات ليست لها الآن أية قيمة، إلا من ناحية الدلالة على نقطة البدء. ثم عدت مرة أخرى إلى مجال البحث عام 1950 في دراسات ونظرات قصيرة أثمرت كتابي (نزعات التجديد في الأدب العربي المعاصر) الذي أقتصر في جزئه الأول والوحيد على دراسة الأدب العربي المعاصر في مصر محاولًا أن أربط نفسي بالمرحوم جورجي زيدان الذي كان قد توقفت دراساته لتاريخ الأدب العربي المعاصر حوالي عام 1914".

ولم يتوقف الأستاذ أنور الجندي عند متابعة هذا الميدان المهم في أدبنا العربي، ومجالاته المختلفة، فمع بروز اليقظة العربية وبروز حركة الإصلاح والتجديد أواخر القران التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع رفع علم الوحدة المصرية/ السورية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي: "دفعني إلى تحقيق حلم كان يراود الدعاة منذ وقت طويل. وهو كتابة تاريخ الأدب العربي على مستوى الأمة العربية كلها، ومن هنا عزمت على القيام بهذا العمل وهو دراسة الأدب العربي المعاصر في العالم العربي كله في فترة زمنية تبدأ بالنهضة الحاضرة، وعلامتها "جمال الدين الأفغاني" الذي يُعد بحق رائد الفكر العربي الإسلامي المعاصر".

لكن مع وجود الاستعمار العسكري، والفكري، مع تحرك الاستشراق للتغريب الأدبي والفكري، كان لابُد من التحرك المقابل لهذا التوجه الذي يريد الأمة أن تنسحق وتتغرب، لكن الأستاذ أنور الجندي يرى في كتابه: "خصائص الأدب العربي" أن: "على الأدباء والمثقفين عامةً أن يدركوا أنهم على بر الأمان، ولا خوف عليهم ما تمسكوا بالعربية لغة القرآن، لغة أكثر من ألف مليون مسلم، وليس مئة مليون هم الغرب وحدهم؛ لأنه ما تزال قوى التخريب وفلول الاستعمار والأحقاد والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردةً شديدةً، وهناك اتجاه تغريبي يرمي إلى هدم الفصحى وعزلها والمبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة، ولقد اعتقد المسلمون- واعتقادهم حق- أنَّ لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجمانًا لوحي الله، ولغة لكتابه، ومعجزة لرسوله، ولسانًا لدعوته، ثم هذبها الدين بانتشاره، وخلدها القرآن بخلوده، والقرآن لا يُسمى قرآنًا إلا بها، والصلاة لا تكون صلاةً إلا بها، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها".

ولذلك يرى الأستاذ الجندي، أنه لابُد من التمايز، وأن لا نكون مجرد متلقين من الآخر المختلف في مجال الفكر والأدب بالأخص، بعكس العلوم والتكنولوجيا، التي فيها الأخذ والعطاء معروف ومُتبع بين الحضارات والثقافات التي هي من صميم قيمها الذاتية؛ فـ"الأدب العربي التي تميزه عن الآداب العالمية، ترجع إلى البيئة التي نشأ فيها، والفكر الذي تشكل في إطاره، والأصول التي استمد منها وجوده.. والتحديات التي واجهته في مساره الطويل. ولا ريب أنَّ أدب أي أمة مرتبط دائمًا بلغتها، فهو في المصطلح الفني أدب لغة.. وهو بالنسبة للأمة العربية أدب اللغة العربية.. وأدب أي أمة هو نتاج عواطفها ومشاعرها وعقولها، وهو عصارة مزاجها النفسي، وطابع روحها، وهو في نفس الوقت مُرتبط بهذه الأمة: أرضها، وسمائها، وقيمها وتقاليدها، أحداثها ومجتمعها.. فهو عصارة وجهة نظرها في الحياة، مستمدة من داخلها".

كما إن هذا الأدب العربي له سمات ورؤى محددة- كما يشير أنور الجندي في أغلب كتاباته الأدبية والفكرية- لا يجب أن تحيد عنها، ولذلك يقول: "أول أهداف الأدب في عصرنا وفي هذه المرحلة الدقيقة من حياة أمتنا: هو التحرّر من التبعية للغرب في شتى صورها، ومن سيطرة النفوذ الأجنبي، ومن الغزو الثقافي والتغريب مع القدرة على الأخذ والعطاء والرفض أيضًا والتماس الارتباط الدائم مع الأصالة امتدادًا إلى المنابع، والتماس الالتقاء الدائم مع العصر حتى لا نفقد هويتنا ولا نتأخر عن الركب الحضاري، ليس متابعة مناله واحتواء فكره لنا، ولكن توجيهًا وبيانًا لرسالة أمتنا ومعطياتها القادرة دائمًا على أي تقدم للبشرية ترياق آلامها، وسكينة نفسها، وسلامة طريقها وصدق غايتها، فلسنا تابعين للقافلة ولكنّا هداة، ولسنا إلا الشعرة البيضاء في الشاة السوداء".

ومن هنا، وإن حصلت بعض التبعية أو التأثر بأفكار ثقافات أخرى تختلف عن الثقافة الأصلية، فإنَّ هذه الظرفية لا يمكن أن تستمر لأن الثقافة الرصينة، بقيت قوية، مع كل ما مر بها رؤى مغايرة لذاتيتها الحصيفة. ولذلك يقول د. أحمد هيكل- كما نقل ذلك أنور الجندي- مجرد فورة: "تأججت أيام أبي نوّاس هدأت في أيام أبي تمّام بعد أن زالت الفاشية عن النفس العربية، وبعد أن انكشفت الغشاوة عن المجتمع العربي. فقد تجاوز مرحلة الانهيار بها إلى تأملها ونقدها واختيار الصالح منها، وحينئذ عاد الشعر العربي مع أبي تمّام وجيله إلى أصالته، ورفض كثيرًا مما أصابه أو فرض عليه أيام الفورة مما يتنافى مع الطبع العربي والقيم العربية فاختفى شعر الشعوبية والاستخفاف بالعروبة، وتقلَّص شعر المجون والزندقة، حتى لم يعُد له مكان، ودرست ظاهرة افتتاح القصائد على طريقة أبي نوّاس تقريبًا، وعاد منهج القصيدة العربية الجادة إلى الظهور كرّد فعل لتصرف أبي نوّاس وأصحابه. وقد بلغ اتجاه أبي تمّام ذروته مع أبي الطيب المتنبي، حتى ليمكن أن يعتبر هذا الشاعر الكبير أعظم من مثله قيمة".

وقد ناقش الدكتور أنور الجندي، ما طرأ على الأدب العربي المُعاصر، الذي تأثر به البعض من أبناء جلدتنا، وأصبحوا مجرد ناقلين عنه وليسوا مبدعين، والفرق كبير، بين التبعية والإبداع الذاتي لكل أمة من الأمم.. وللحديث بقية.