الاستثمار الأجنبي والسيادة.. رؤى ومقاربات

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

كثُر الحديث في السنوات الأخيرة عن الاستثمار الأجنبي من خلال دعوة بعض الشركات الأجنبية للاستثمار أو فتح مشاريع أو فتح فروع لها في العديد من دول العالم الثالث أو الدول النامية، لكن الذي يعنينا في هذا المقال هو تأثير هذا الاستثمار على السيادة؛  سواءً كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر؛ لأنَّ هذا الموضوع مثار جدل ونقاش واسعين.

وقبل الدخول في الحديث عن صلب موضوعنا يجدر بنا تعريف مصطلحين هما طرفا المعادلة في هذا الموضوع وهما الاستثمار الأجنبي والسيادة. ويعرّف بعض الباحثين الاستثمار الأجنبي على أنه امتلاك إحدى المؤسسات أو أحد الأفراد في دولة ما لأصول مؤسسات تعمل في دولة أخرى، وهو نوعان: الاستثمار المباشر والاستثمار بامتلاك الأسهم والسندات فقط.

والاستثمار الأجنبي المباشر (Direct Foreign Investment) ويقصد به شركات رؤوس الأموال الدولية التي تسعى لإنشاء أو تطوير أو الحفاظ على شركات أخرى تابعة أجنبية و (أو) ممارسة السيطرة أو (تأثير كبير) على إدارة الشركة الأجنبية. والاستثمار الأجنبي المباشر أنواع، لا يتسع المقام لشرحها في هذا المقال.

وتعد الشركات العابرة للقارات أو القوميات أحد أشكال الاستثمار الأجنبي. ويوجد حاليًا أكثر من 500 شركة عابرة للقوميات تزيد مبيعاتها السنوية على 14 مليار دولار، فيما تُنتج 60 شركة عابرة للقارات أو القوميات أكثر من ربع الإنتاج العالمي الكلي؛ إذ تُعد المسيطر الفعلي على الاقتصاد العالمي. وللشركات العابرة للقارات أو القوميات مزايا وعيوب، وكتب فيها الكثير من الأبحاث والأطروحات والمقالات. ويعنينا هنا جانبها السلبي الذي قد يكون له تأثير غير مباشر على السيادة.

أما السيادة، فقد عُرِّفت بعدة تعريفات منها أنَّ السيادة "هي سند الحكم، ويشمل السياسة والتشريع وولاية الأمور العامة". والسيادة كذلك هي "الحق الكامل للهيئة الحاكمة وسلطتها على نفسها، دون أي تدخل من جهات أو هيئات خارجية". ونسمع ونقرأ عادة عن دولة ما بأنها دولة مُستقلة وذات سيادة أو ذات سيادة على كامل أراضيها. وأيضًا هناك المؤسسات السيادية في دولة ما وهي تختلف من دولة إلى دولة. وهناك الديون السيادية وهي أحد أنواع الاستثمار الأجنبي غير المباشر تعرف بأنها "السندات التي تقوم الدولة بإصدارها بالعملة الأجنبية، لتمويل المشاريع (القومية) أو الكبيرة أو الضخمة. وهي موجهة في العادة للمستثمر الأجنبي". وهناك نوع من أنواع السيادة يسمى "السيادة المنقوصة"، ويرى أحد الباحثين أن هذا المصطلح بدأ يظهر بعد "ثورات الربيع العربي"، ولكن هذا الموضوع كان قائمًا في العديد من دول العالم قبل هذه الثورات بعقود، وإن لم يكن يحمل هذا المصطلح أو المفهوم. وأكبر دليل على السيادة المنقوصة التي نشير إليها، هو تلك الدول التي وقعت تحت الاستعمار أو الاحتلال لسنوات طويلة. ومن المحتمل أن مفهوم السيادة لم يكن قد تبلور في تلك الفترة.

وقبل الدخول في الحديث عن علاقة الاستثمار الأجنبي بالسيادة من خلال مجموعة من الرؤى والمقاربات، رأينا أنه من الأجدر الإشارة إلى نماذج من البدايات الأولى للاستثمار الأجنبي في العصر الحديث وعلاقته بالسيادة من قريب أو بعيد في بعض الدول.

ويمكن القول إن البداية الأولى للاستثمار الأجنبي وعلاقته بالسيادة تتمثل في تدفق رؤوس الأموال اليهودية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى في العديد من دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للاستثمار في البنوك والإعلام والسينما وأصبح لأصحابها التأثير على مواقف وقرارات تلك الدول.

ومن أشهر النماذج على ذلك عائلة روتشيلد Rothschild Family  اليهودية، وروبرت مردوخ رجل الأعمال الأسترالي الأمريكي اليهودي أحد أقطاب التجارة والإعلام الدولي. ويطلق في بعض الأحيان على شركاته الإعلامية "إمبراطورية مردوخ" الإعلامية. ومن ذلك تأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية على صُنَّاع القرار، من خلال مجموعة من رجال الأعمال والتجار اليهود الذين يملكون العديد من البنوك والمصانع والمؤسسات الإعلامية والصحف.

ومن أقدم الاستثمارات الأجنبية القروض والاستثمارات التي تمت في عهد محمد سعيد باشا (1237هـ/ 1822م- 1279هـ/ 1863م) الابن الرابع لمحمد علي باشا الذي تولى حكم مصر من 24 يوليو 1854 إلى 18 يناير 1863. وتلك القروض ورؤوس الأموال الأجنبية قُدمت لحفر قناة السويس التي بدأت في عهده واكتمل حفرها في عهد الخديوي إسماعيل الذي يعد المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي باشا.

وفي عهد محمد سعيد باشا تم توقيع عقد الانتفاع لقناة السويس لمدة 99 عامًا لصالح فرنسا وبريطانيا. بينما جرى نقض أو إلغاء هذا الاتفاق في عهد الرئيس جمال عبد الناصر بدعوى التأميم قبل انتهائه بسنوات قليلة، الأمر الذي أدى إلى قيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان له تأثير سلبي على الاقتصاد.

ومن نماذج تدفق رؤوس الأموال الأجنبية "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية الذي وضعه جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأمريكي منذ يناير 1947.

وكانت الهيئة التي أقامتها حكومات غرب أوروبا للإشراف على إنفاق 13 مليار دولار أمريكي تقريبًا قد سميت "منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي"، وقد أسهمت هذه الأموال في إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية. ومنذ تلك الأيام والولايات المتحدة الأمريكية تتحكم في العديد من قرارات ومواقف بعض الدول الأوروبية.

وذكر الخديوي عباس حلمي الثاني أن الأوروبيين هاجروا بأعداد كبيرة إلى مصر بعد الحرب العالمية الأولى تصل إلى عشرات الآلاف. وهناك صور لسفن الأوروبيين المهاجرين راسية على شواطئ الإسكندرية. ولم تكن هذه الأعداد كلها جاءت للعمل؛ بل جاء معهم مستثمرون وأصحاب رؤوس أموال افتتحوا مئات المحلات في القاهرة في مختلف أشكال وأنواع التجارة. وتم ترحيل هؤلاء التجار والمستثمرين بعد رحيل الملك فاروق عام 1952 بحجة أنه استمرار لصورة الاستعمار البغيض، مع أن هؤلاء التجار والمستثمرين لم يكن لهم صلة بالاستعمار لا من قريب ولا من بعيد.

ونود الإشارة هنا إلى أن ظاهرة التجار ورؤوس الأموال ربما قد تكون بدأت مع الخديوي إسماعيل الذي أكمل حفر قناة السويس وأنشأ القاهرة الخديوية القديمة (وسط البلد)، وكان له الفضل في عدد كبير من المشاريع. وكان الأجانب كذلك يعملون في قناة السويس وكان يسكن عدد كبير منهم يقدر بالمئات في بورفؤاد. وكان للشوام (لبنان وسوريا) دور مهم في المجال الاقتصادي والتجاري في القاهرة والإسكندرية منذ القرن التاسع عشر أو ما قبل ذلك.

وقبل الدخول في الحديث عن بعض الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية التي قد يكون لها تأثير على السيادة، نشير إلى نموذج الاستثمار الصيني أو القروض الصينية في سيريلانكا الذي طغى على السطح هذه الأيام. فقد أعلنت الحكومة السيريلانكية أنها وبصورة مفاجئة وللمرة الأولى في تاريخها بمجال الاقتراض ستعجز عن سداد دين خارجي. واليوم تعيش سيريلانكا فعليًا على الدعم المالي الذي تقدمه لها الهند، بعد رفض الصين إعادة جدولة ديونها، واكتفائها بعرض دين جديد قد يدفع سيريلانكا إلى بيع مزيد من الأصول الوطنية. والصين على مدى 18 عامًا منحت أو أقرضت أموالًا لـ13427 مشروعًا للبنية التحتية بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة، وفقًا لمركز أبحاث Aidata في جامعة ويليام آند ماري في ولاية فيرجينا الأمريكية؛ منها 385 مليار دولار لم يُعلن عنها أو جرى التقليل من أهميتها. والصين ليست الدولة الأولى في انتهاج "دبلوماسية القروض" التي تعد أبرز أشكال الدبلوماسية الناعمة؛ بل سبقتها إلى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي قبل ذلك بعقود.

وما دمنا في آسيا، فإنني أودُ الإشارة إلى أن الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، أشار في كتابه "طبيب في رئاسة الوزراء" إلى بعض القروض والاستثمارات الأجنبية التي رأى من وجهة نظره أنها سوف تؤثر على السيادة على المدى البعيد. واستمعت إلى حديث للأستاذ الدكتور عبد الصبور مرزوق في بعض البرامج القديمة التي تبثها قناة "ماسبيرو زمان" يقول فيه إن وقوع الدول أو الأمم في ضائقة مالية يُهدد استقرارها واستقلالها؛ أي بمعنى آخر يُهدد سيادتها. وقد تلجأ للاستدانة والقروض الأمر الذي سوف يؤثر على السيادة بطريقة أو بأخرى، كما حدث في سيريلانكا.

وفي إطار الحديث عن الاستثمار الأجنبي وعلاقته بالسيادة هناك مقولة تقول "No Free Lunch" أي "لا وجبةً مجانيةً"؛ بمعني أنه ليس هناك قروض أو استثمار، إلّا وتكون له أغراض وشروط، وهذا ما يدعو للتوجس ووضع علامات استفهام. وهنا لا بُد أن نشير إلى نقطة مهمة وهي أنه لا يذكر الاستثمار الأجنبي بأشكاله المختلفة، إلا ويُذكر معه ويقترن به الفساد بأشكاله وأنواعه المختلفة. وسنشير هنا إلى نماذج من الاستثمارات الأجنبية وتأثير بعضها على السيادة وعلاقة هذا كله بالفساد بطريقة أو بأخرى. ومن أخطر هذه الأنواع أو الأشكال تأثير هذا الاستثمار على القرارات وعلى مواقف الدول من قضايا معينة، وقد يصل التأثير إلى متخذ القرار نفسه. ومن ذلك أيضًا، رهن بعض موارد الدولة لدولة أخرى لسنوات طويلة أو بيع مورد كالغاز مثلًا بأقل من سعره أو بسعر رخيص لمدة 30 سنة تقريبًا.

ومن ذلك قيام بعض الشخصيات بعمليات غسيل أموال في دولة أخرى تحت ستار الاستثمار الأجنبي، وقد يحصلون على جنسيات الدول التي يستثمرون فيها، كما أشرنا في مقال سابق عن الجنسية.

وقد يكون بعض هؤلاء المستثمرين الذين أشرنا إليهم تجار مخدرات أو مجرمي حرب، وهذا يقودنا إلى التساؤل عن السقف المسموح به من التسهيلات أو الامتيازات الممنوحة لهؤلاء المستثمرين. وفي بعض الدول، سمعنا عن صدور قرار بمنع بيع الأراضي للأجانب في بعض الأماكن الحدودية، ولعل هذا له صلة بموضوع مقالنا؛ حيث ذكر لي أحد كبار المسؤولين المعنيين بتوزيع الأراضي بأنهم عانوا من توزيع الأراضي حسب أنواعها وبخاصة الصناعي والتجاري؛ لأن المواطن يقوم بعرضها على الأجانب وبخاصة في مسقط وصحار وصلالة. وبعد إدخال الخدمات إليها يقوم الأجنبي ببيعها بأضعاف سعرها السابق.

وأحيل القارئ الكريم لمقال الدكتور عبد الله باحجاج المنشور في صحيفة الرؤية بتاريخ 7 أغسطس 2022 لأنه ذو صلة بموضوع مقالنا.

واستعرضنا في مقالنا هذا الحديث عن الاستثمار الأجنبي ونماذج منه في التاريخ الحديث ومخاطره، وتطرقنا إلى الحديث عن السيادة وأشكالها وعلاقتها بالاستثمار الأجنبي، ثم أشرنا إلى علاقة الفساد بموضوع مقالنا وكيف أن الفساد قد يتغلغل في الاستثمار الأجنبي مشكلًا خطورة أو مساسًا بالسيادة.

الذي نريد أن نخلص إليه أن الاستثمار الأجنبي والقروض لها فوائد ومخاطر، وتجب دراسة موضوع الاستثمار الأجنبي دراسة وافية شاملة من كل جوانبه، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى قبل الشروع فيه أو الإقدام عليه.

** كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك