"الواسطة فوق القانون"!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

"الواسطة فوق القانون"؛ من العبارات الرنانة وواسعة الانتشار في حياتنا؛ والتي يتشبث بها كل ذي حاجة في مُجتمعنا، الكبير قبل الصغير، والمواطن قبل المسؤول بهدف تحقيق غايته والفوز بالغنيمة ولو على حساب الآخرين الذين يستحقون تلك الفرص والحقوق.

والجميع يدرك خطورة الواسطة وتأثيرها السلبي في تدمير القيم والأخلاق والنسيج الاجتماعي في أي دولة تنتهج وتسمح بانتشار وتداول هذا المرض السرطاني الفتاك، الذي يعمل على تدمير الدول والأنظمة من الداخل مثل ما تعمل السوسه في الخشب؛ مهما كانت قوتها العسكرية والأمنية؛ بل ويُضعف تماسك المُجتمع ويفقد البناء الداخلي والسلم الوطني بين أفراده بسبب سياسة التمييز والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، وذلك انطلاقًا من قاعدة خاطئة وخبيثة تبعتها الدول الاستعمارية وطبقتها في الدول العربية التي كانت تخضع للانتداب في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين ومضمونها سياسة "فرق تسد" بين الناس، فيجب أن يدرك هؤلاء المتنفذين أن "العدل أساس الملك"، وأن انهيار الإمبراطوريات الكبرى، بل وحتى الدول الصغيرة، سببه الواسطات وتجاوز الأنظمة والقوانين التي وُضعت لتحقيق العدالة والمساواة بين الناس.

ولعلنا هنا نتذكر في هذا المقام مقولة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى؛ إذ قال "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

لا شك أنَّ هذا المرض الاجتماعي الخبيث لم يكن محصورا في بلدنا فقط؛ بل منتشر في سائر دول المنطقة بشكل خاص ودول العالم الثالث بشكل عام؛ إذ تسود الأعراف والواسطات والمحسوبية بدلا من القوانين السارية التي تعتبر في كثير من الأحيان حبرا على ورق فقط. فعند الاطلاع على تجارب الشعوب المتحضرة والتي نجحت في الخروج من الواسطات، لم نجد شعبا عربيا واحدا قد خرج من هذا المستقع الخطير، فعند توزيع الأموال والمناصب والأراضي، تحضر المحسوبيات والعلاقات الاجتماعية الضيقة بقوة، وتنظر هذه الجهات بعين واحدة هي عين الولاءات والعلاقات وصلة القرابة فقط، ويتم تطبيق القاعدة التي تقول "شيِّلني واشيِّلَك"؛ ويتم في كثير من الأحيان تهميش الكفاءات والمستحقين والمخلصين والأمناء، مما يترتب على ذلك انتشار الفساد ونهب الأموال العامة وانتشار الفقر بين عامة الناس، هذا فضلا عن التخلف الإداري والمالي على نطاق واسع من المحيط إلى الخليج. كما إن شراء ذمم  الأفراد لكسب التأييد تنتشر بشكل ممنهج في مجتمعاتنا العربية.

وأتذكر موقفا طريفا حصل لي خلال عملي كأستاذ زائر في جامعة (Queensland) الأسترالية؛ إذ طرح أحد أساتذة هذه الجامعة المرموقين وهو (جون كوكلي) سؤالًا صادمًا لي؛ مفاده: لماذا العرب يرجعون إلى الخلف، بينما جيرانهم يتقدمون خطوات إلى الأمام خاصة في مجالي الديمقراطية والتنمية الاقتصادية؟!" ويقصد بذلك تركيا والكيان الصهيوني وإيران.

وبالفعل، كعادتنا نحن العرب كان ردي انفعاليًا وسريعًا؛ إذ قلت: هناك سببان لتخلف العرب، الأول فهو تاريخي والمتمثل في الاستعمار الأوروبي الذي طال مُعظم الدول العربية، أما السبب الثاني فتدخل الدول الكبرى المستمر، وخاصة أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا في مصير العرب وفرض أنظمة حكم موالية لهم على حساب الشعوب العربية، ومنع العرب من استيراد وامتلاك مقومات النجاح والمتمثل في تطوير التعليم وتوطين التكنولوجيا وأساب الردع النووي، مثل استهداف "مفاعل تموز" في العراق، وبعد ذلك تفكيك المفاعل النووي الليبي في مطلع الألفية الجديدة، بينما يسمح لهذه الدول المجاورة للعرب بامتلاك الأسلحة الفتاكة غير التقليدية لترهيب الدول العربية، وجعلهم ضعفاء.

يبدو لي أن الذي يمنع العرب من التقدم والولوج إلى الصف الأول واحتلال مكانة متقدمة بين الأمم المتحضرة، هو الفساد والواسطة، وليس الدول الاستعمارية الكبرى، فقد نجحت دول تعرضت للتدمير والاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية، ولكنها نهضت من جديد بإردة شعوبها وتطبيق العدالة الاجتماعية وقيم الديمقراطية وحجزت لنفسها مقاعد في مجموعة السبع الكبرى ونقصد هنا ألمانيا واليابان.

يجب الاعتراف بأن المؤسسات الخدمية التي تقدم خدماتها للمجتمع؛ كالتوظيف ومنح المساعدة الاجتماعية والأراضي وكذلك الشركات الحكومية والخاصة التي تتبع الواسطة في التوظيف وتقديم الخدمات شريكة وتتحمل جزءًا من المسؤولية في خلق ثقافة الواسطة وتشجيع المواطن على طرق الأبواب للحصول على حقوقه، وقبل ذلك تأخير الإجراءات والتعقيدات في تخليص معاملات المواطنين والتي لم ينزل الله بها من سلطان، وتتخذ من الموظفين الصغار قبل المديرين وكبار المسؤولين، وهذا ما يعرف محليا بتعطيل المعاملات وتأخيرها لأسابيع أو أيام حتى لو كانت في المتناول إنجازها في دقائق معدودة.

من المؤسف حقًا، أن هناك من يقسم الواسطة في مجتمعنا العماني إلى نوعين، فالنوع الأول ما يعرف بالواسطة الحميدة التي هي عبارة عن تدخل شخص ذي جاهٍ مثل أعضاء المجالس المنتخبة أو الشيوخ والأعيان لمساعدة شخص مستحق لإنجاز وتسهيل طلبه، بينما النوع الثاني هو التدخل لدى الجهات الرسمية لكي يستحوذ صاحب الواسطة على الفُرص والحقوق على حساب الآخرين الذين هم الأقدم والأحق بتلك الحقوق.

وفي الختام، لا يمكن القضاء هذا المرض الخبيث الذي يعرف بـ"الواسطة" إلا بانتهاج سياسة الأبواب المفتوحة، ومعاملة الناس بالتي هي أحسن، وتطبيق مبدأ المحاسبة لكل من يخالف القوانين التي وضعتها الدولة وجنح إلى المحسوبية والواسطة بدلًا من إعطاء الحقوق لأصحابها من الفقراء والمحتاجين الذين لا وسيط لهم سوى الله، الذي قد يؤخر حقوقهم إلى يوم الميعاد.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري