الوجه الآخر للإشعاعات النووية

 

محمد بن سعيد الرزيقي

alruzaiqi4m@gmail.com

 

أحدث اكتشاف عنصر اليورانيوم، فتحًا مُبينًا، وثورة هائلة، وسابقة تاريخية في إنتاج الطاقة النووية، وهو مما سخّره الله سبحانه وتعالى للإنسان يقول الله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة الجاثية: 13).

وعنصر اليورانيوم هو أساس الطاقة النووية ووقودها المستعر، يوجد بشكل طبيعي في الأرض، وهو من أثقل العناصر الكيميائية على وجه الأرض، ويوجد على أشكال مختلفة تسمى بـ"النظائر المُشعَّة"، من أبرزها النظير المشع "يورانيوم 35"، والنظير المشع "يورانيوم 38"، ولكي يتحول اليورانيوم من عنصر خام خامل إلى عنصر يُنتج حرارة ووقود، فإنه يمر بعملية تخصيب؛ حيث يتحول من الحالة الصلبة (أكسيد اليورانيوم) إلى الحالة الغازية (سداسي فلوريد اليورانيوم)، ونسبة التخصيب تُحدد استخدامات الطاقة؛ فإذا كانت مُنخفضة استخدمت في الأغراض السلمية، ولا يمكن استخدامها في صناعة الأسلحة الذرية الفتّاكة والمُدمرة، إلّا إذا كانت نسبة التخصيب عالية، وهذا كله يرجع إلى مقصود كل دولة وهدفها من استخدام الطاقة.

اليوم.. يُعوِّل العلماء والساسة على هذه الطاقة- في جانبها المشرق- لأن يكون لها شأن كبير في رفاهية المجتمعات البشرية؛ إذ من شأن هذه الطاقة خفض تكاليف إنتاج الكهرباء؛ مما يجعل هذه الخدمة مُتاحةً حتى للذين لا ينعمون بالكهرباء. كما إن الطاقة النووية طاقة نظيفة لا تنبعث منها الغازات الملوثة للبيئة كغاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الرئيس في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، إضافة إلى الاستخدامات الفرعية الأخرى مثل الحصول على تشخيص دقيق لبعض الأمراض ومعالجتها؛ كأمراض الغدة الدرقية وغيرها من الأمراض، وتستخدم أيضًا في تحسين المنتجات الزراعية، والتعقيم خصوصًا تعقيم الأدوات الطبية، وفي تمديد صلاحية بعض المواد الغذائية، وفي إجراء البحوث العلمية.

وهناك جانب آخر، جانب المآسي والدمار، فالبشرية مع ما مثّل لها هذا الاكتشاف من منافع عظيمة إلا أن مخاطر جسيمة تنطوي تحته، ومهالك عظيمة تنتج عنه، ومجازر بشرية يمكن أن تُنذر بفناء مجتمعات بأكملها، وتقضي على عناصر البيئة الطبيعية؛ الأمر الذي يسبب ذعرًا مستمرًا، وخوفًا دائمًا، وقلقًا لا ينتهي؛ وذلك أنه حينما يحدث انفجارٌ في أحد المفاعلات النووية نتيجة خطأ بشري في التشغيل أو في إجراء التجارب النووية، فإنَّ الاشعاعات الناتجة ما تلبث أن تقضي على الأخضر واليابس، وتُلوث الأرض والسماء والمياه بنويدات الأشعة.

والحال نفسه حينما تحدث حروبات بين الدول؛ فإنَّ أول هذه التهديدات هي تهديدات ضرب المفاعلات النووية- كما هو مشاهد اليوم- أو حينما تحل الزلازل- لا سمح الله- أو غيرها من العوارض على هذه المحطات، فتتسرب منها الإشعاعات النووية السامة والمميتة، وكذلك الحال في مدافن النفايات النووية فإنها لا تسلم منها أيضا- إلا ما رحم الله- فتنسفها نسفًا، حينها يبكي العالم دمًا، ويعتصر ألمًا.

لا ينس العالم عمومًا، واليابان خصوصًا، فاجعة إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945م، التي قضت على حياة 140000 شخص في هيروشما، وقضت على حياة 47000 شخص في نجازاكي، ناهيك عن إصابة الكثير ممن نجو بالصدمات النفسية، والتسمم الإشعاعي، وأمراض السرطان وتشوه المواليد، والأضرار التي حدثت في الأراضي والبيئة عمومًا.

وكذلك ما يزال العالم يستذكر مآسي وأحزان مدينة تشيرنوبل في أوكرانيا التي (آنذاك) كانت تخضع للحكم السوفيتي؛ ففي صبيحة السادس والعشرين من إبريل من عام 1986 استيقظت مدينة تشيرنوبل على أسوأ كارثة نووية في تاريخ البشرية، حينما انفجر المفاعل رقم (4) من المحطة في الساعة الواحدة صباحًا، بسبب خطأ وقع في تجربة مفترض أن تكون آمنة؛ فإذا هذا الانفجار يغير المنطقة فإذا الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، فقد قضت الإشعاعات المتناثرة هنا وهناك على النباتات والحيوانات وأصيب الإنسان بأمراض مختلفة من السرطانات وأمراض أخرى، وتوفي منهم من توفي، وتم إجلاء السكان ونقلهم إلى مناطق بعيدة وآمنة، وتم إعدام بقية الحيوانات الحية مخافة تلوثها بالإشعاع وانتقاله إلى لحومها وألبانها مما يسبب خطورة على صحة وسلامة المستهلكين، واستحالت السماء إلى ركام من الأدخنة والرواسب العالقة في جوها، فلم تعد الطيور تصدح في أجوائها مثل ما كانت، فبالجملة كل شيء تأثر.

وإن نسي العالم شيئًا، فإنِّه لا ينسى فاجعة الكارثة النووية في فوكوشيما باليابان، حينما نُكبت المدينة بزلزال تسبب في تشكل تسونامي مدمر في عام 2011م، وما زالت جهود تطهير المدينة من الإشعاعات تجري إلى يومنا هذا، كما أنه ما زال 80% من سكان المدينة يعيشون خارجها، والنسبة الباقية يعيشون نازحين.

إن الطامة الكبرى، والداهية العظمى في هذا الموضوع هي عدم استطاعة العلماء والمكتشفين للطاقة الذرية، والبشرية جميعًا إلى يومنا هذا إيجاد حل دائم لمعضلة النفايات النووية المليئة بالأشعة الخطيرة المسببة لأنواع مختلفة من الأمراض والسرطانات- أعاذنا الله منها- وتدميرًا واسعًا للمسطحات الخضراء، وإفسادًا شاسعًا للأراضي المنتجة لغذاء الإنسان؛ فلم تعد تصلح للزراعة، وتحتاج إلى مئات السنين حتى ترجع إلى ما كانت عليه. فقد شغلت محنة النفايات عقول صناع القرار من العلماء والساسة؛ حتى إنهم فكروا في إرسالها إلى الفضاء الخارجي لكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا خوفًا من أن تتسرب الإشعاعات وترجع مرة أخرى الأرض، إن أقصى ما استطاعوا أن يتوصلوا إليه هو وضع هذه النفايات في حاويات مستديرة مصبوبة بالفولاذ والأسمنت ودفنها في باطن الأرض، أو إلقائها في أعماق المحيطات والبحار، وهو ما يعد تمهيدا لتدمير حياة الكائنات في البحار، وتهديدا لحياة الأجيال مستقبلا؛ إذ إن الإشعاعات تظل مئات السنين؛ بل تمتد إلى آلاف السنين ــ كما يعترف بذلك علماء وخبراء الذرة ــ حتى يخمد نشاطها أو على الأقل تصل إلى النسبة الآمنة التي لا تسبب الضرر لساكني كوكب الأرض.

لقد أدركت الدول المتقدمة في الآلات والصناعات، والمتأخرة في الأخلاق والمعاملات خطورة هذه الإشعاعات؛ فقد دأبت على إجراء تجاربها النووية خارج حدودها بالتحديد في مستعمراتها، في إهانة صريحة لكرامة الشعوب، واعتبار حياتهم رخيصة إلى هذا الحد وصلوا إليه من الكبرياء والجبروت ؛ فأخذوا يجُربون على أراضيهم تجاربهم النووية المهلكة للحرث والنسل، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة: 205)، فها هي فرنسا المُحتل البغيض للجزائر تجري أولى تجاربها النووية في صحرائها ما بين عام 1960 إلى 1965 إبان احتلالها الغاشم لأراضيها، فمنذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا تعتبر تلك الصحراء منطقة محظورة الدخول إليها؛ بسبب نشاط وكثافة الإشعاعات النووية التي تخرج منها رغم مرور أكثر من 60 عامًا، وحسب تقارير جزائرية يُصاب سنويا بأمراض السرطان المختلفة 50 ألفا؛ نتيجة تعرضهم لذرات الأتربة المحملة بالإشعاعات النووية التي تأتي بها الرياح من الصحراء المنكوبة.

وفي فلسطين المحتلة، تنامى عدد المصابين بالسرطان والتشوهات الخلقية والجينية بشكل واضح ولافت؛ نتيجة لقيام المحتل الغاصب بدفن نفايات محطة (ديمونا) النووية بالقرب من منطقة الخليل. وهكذا هم ينأون بالشر عن بلدانهم إلى مستعمراتهم لإدراكهم أضرار الأشعة الناجمة، وقناعاتهم الظالمة برخص حياة هؤلاء البشر.

وختامًا.. اليوم تتسابق دول العالم تسابقا منقطع النظير في امتلاك محطات ومفاعلات نووية لاستخدامها للأغراض السلمية، وربما لصناعة الأسلحة الذرية، أو على أقل تقدير في تهديد واستفزاز الشعوب المغلوب على أمرها، وحسب الإحصائيات فإنه يوجد في العالم أكثر من 450 محطة نووية في 30 بلدًا.

ويبقى هناك سؤلان يلحان على عقلاء الناس وهما:

السؤال الأول: هل الدول المالكة لمحطات الطاقة النووية على درجة من الثقة والنزاهة والمصداقية؛ بحيث لا تستخدم هذه الطاقة إلا للأغراض السلمية؟ ألا يوجد بين الزعماء والساسة من إذا ثارت ثائرته لا يحسب حسابا لما يُقدم عليه؛ فبضغطة زر واحدة يمكنه إهلاك الحرث والنسل.

السؤال الثاني: من يضمن عدم تسرب الإشعاعات النووية من النفايات المعبئة في الحاويات المستقرة في بطون الأراضي، وغياهب المحيطات؟ ومن يضمن استمرار جدرانها مقاومة لعوامل التآكل الخارجية، وعوامل النشاط الحي للإشعاعات بداخلها؟!!

إنه الجحيم المستعر، والبركان الثائر الذي ينتظر الفرصة السانحة لخروجه- لا سمح االله تعالى- وأخيرًا نسأل الله تعالى أن يحفظنا جميعًا من كل مكروه.

تعليق عبر الفيس بوك