في انتظار العودة

 

محمد بن سالم البطاشي

 

سيذكر التاريخ أنَّ انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018، كان من الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها في العصر الحديث؛ حيث استسلمت الإدارة الأمريكية بالكامل لوساوس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولم تراعِ المصالح الأمريكية العُليا في هذا الصدد، وبذلك فقد انتهزت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا الانسحاب وبادرت إلى التحلل التدريجي من التزاماتها جراء هذا الاتفاق، وحلقت بعيدا عن قيود وشروط الاتفاق ولم تبق منه إلا النزر اليسير بناء على إلحاح الدول الأوروبية التي أسقط في يدها ما أقدمت عليه الولايات المتحدة رغم التحذيرات بل والتوسلات المتكررة من قبل القادة الأوروبيين التي لم تجد آذانا صاغية في البيت الأبيض.

ولقد تبنّت إدارة الرئيس ترامب نهجًا متشدداً للغاية تجاه إيران أملًا منها في ثني إيران عن برنامجها النووي تحت ضغط العقوبات الخانقة التي تصوروا أنها ستدفع بالجماهير الإيرانية للخروج إلى الشوارع في تظاهرات حاشدة تقابلها السلطات بالحديد والنار مما يحولها إلى ثورة شعبية عارمة تطيح بنظام الحكم الحالي، أو بمعنى آخر تكرار سيناريو الإطاحة بنظام الدكتور محمد مصدق في انقلاب عام 1953، الذي دبرته المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية في عملية مشتركة سميت بعملية "أجاكس" إثر إقدام مصدق على تأميم النفط الإيراني، إلا أنَّ هذا السيناريو فشل فشلًا ذريعًا، وقد تعلم النظام الدرس واستوعبه جيدًا. ومع هذا الفشل ظلت إدارة الرئيس ترامب تسير على غير هدى ولم تحقق شيئا يذكر، بينما كانت إيران تبتعد أكثر عن مضامين الاتفاق النووي في تكتيك متأن ومدروس يحافظ على شعرة معاوية مع الدول الأوروبية التي كانت على خلاف دائم مع إدارة ترامب.

أدركت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، حجم الخطأ الذي وقعت فيه إدارة سلفه؛ فسارعت لاستدراك الأمر واستكشاف طريق العودة مجددًا، التي أثبتت الأيام أنها ليست سهلة أبدًا، بسبب المُتغيرات الكثيرة والمتعددة والتي حدثت بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي والتي لا يمكن حصرها في هذه العجالة؛ بل نذكر منها: فرض الولايات المتحدة عقوبات قاسية على القطاعين النفطي والمالي في عام 2018 في إطار سياسة "الضغوط القصوى"، مما دفع بشركات عالمية كبرى إلى إلغاء مشاريعها في إيران ووقف أنشطتها. وفي عام 2019 قرر ترامب إنهاء الإعفاءات التي سمحت لثماني دول بشراء النفط الإيراني، في المقابل أعلنت طهران أنها أطلقت عملية تخصيب اليورانيوم بأجهزة طرد مركزي متطورة في أواخر عام 2019، وقد أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية- حينها- أن الاحتياطيات الإيرانية من المياه الثقيلة، واليورانيوم منخفض التخصيب المسموح به والمقدر بـ300 كيلوجرام قد تجاوز الحدود المسموحة. وفي مطلع 2020، أعلنت إيران تخليها عن كل القيود المتعلقة بأجهزة الطرد المركزي بعد يومين من اغتيال اللواء قاسم سليماني. وفي فبراير 2020، أكدت طهران أنها مستعدة للعودة جزئيًا أو كليًا عن الإجراءات التي اتخذتها إذا ما قدّم الأوربيون ميزات اقتصادية ملموسة. وفي مارس من العام ذاته، فعّلت أوروبا آلية المقايضة التجارية مع إيران "أنستكس" التي تتيح للشركات الغربية التجارة مع إيران دون التعرض للعقوبات الأمريكية. وفي نوفمبر 2020، اغتيل العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده. وفي شهر فبراير 2021، أعلنت واشنطن الموافقة على دعوة من الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات مع طهران. وفي شهر إبريل عام 2021، بدأت إيران في تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%. وفي شهر يونيو 2022، أعلنت إيران نيتها وقف عمل كاميرات المراقبة في العديد من مواقعها النووية.

إنَّ العودة إلى الاتفاق النووي -المبرم في مدينة لوزان السويسرية في إبريل 2015 مدته ثمان سنوات وينتهي في عام 2023- قد جاء بناءً على المصالح المتحققة للأطراف المعنية- رغم تعارضها، وتجنيب الفرقاء الآثار المدمرة للصدام المسلح، ذلك أن الذهاب إلى الحرب في ظل "توازن الرعب" القائم حاليًا أصبح مستحيلًا. ثم إن هذا الإتفاق في نظر الغرب يبقى أقوى الضمانات لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، وقد ضاعفت الحرب الروسية الأوكرانية الحاجة إلى التوصل لاتفاق مرضٍ لكل الأطراف تحت إلحاح النقص في مصادر الطاقة التي حلقت أسعارها بما يُنذر بكارثة وشيكة للغرب مع حلول فصل الشتاء.

ومع التركيز الأمريكي على مواجهة الصعود الصيني المتواصل ومساندة أوكرانيا، تبقى مواجهة إيران عسكريًا أمر غير مرغوب. وغني عن القول إن دول الخليج وفي ظل هذه الأوضاع العالمية المضطربة على أكثر من صعيد، باتت في أشد حاجة إلى الأمن والاستقرار؛ لمواصلة البناء والتنمية. بينما تبقى إسرائيل- وحدها كالعادة- تقرع طبول الحرب، بشرط أن يحارب الآخرون نيابة عنها؛ حيث استخدمت كل أذرعها الصهيونية والماسونية والمالية والفكرية والسياسية والإعلامية في محاولة يائسة للتأثير على القرار الأمريكي، ولكن دون نجاح يُذكر؛ ذلك أنَّ عجلة المفاوضات قد انطلقت تحت ضغوط موضوعية مُلحة ولا يمكن وقفها. ومن جانب إيران، فإنَّ عودة أمريكا إلى الاتفاق يُعد نصرًا سياسيًا للثوابت التي تمسكت بها في أشد الأوقات حلكة، كما إنها ستجني ثمارًا اقتصادية وفوائد سياسية هائلة، وتُكرِّس وضعها الإقليمي كأحد اللاعبين الكبار في المنطقة.

تعليق عبر الفيس بوك