أسرار الـ"DNA"

 

هلال بن حمد النعماني

omanoor101@gmail.com

 

السِر بكسر السين كل أمر تم كتمه أي هو ممارسة إخفاء معلومة ما وعدم البوح بها وإظهارها للعلن، والكتمان وعاء ومحل السر والحاضن له يضيق ويتسع على حسب أهمية السر والقدرة على كتمانه.

والسر كلمة لها وقعها المدوي في النفس؛ حيث تستشف الآذان لها وتتبعها الحواس بفضول غريزي باحثة عن كل ما حجب عنها. ولأهميته أحيط السر بضوابط من الشرائع والقوانين والأعراف الاجتماعية. والإنسان بطبعه تكتنفه رغبة جامحة تلح عليه لهتك حجب السر فلا يطيق صبرا على مقاومة غموضه وإغوائه، لذلك تجده يسعى حثيثا ليحيط علما بأسرار الكون الواسع وسخر لذلك الموارد المالية الكبيرة والكثير من الجهد في إصرار عجيب لفهم الطبيعة الكونية التي تحيط به والذي هو جزء بسيط منها، والعقل البشري عقل جبار خلاق تتوالى عليه الفتوحات الإبداعية اللامتناهية وهو مناط التكليف والفيصل الفارق بين الإنسان وسائر مخلوقات الله تعالى.

ومنذ أن وجد في هذه الأرض، سعى الإنسان بشكل دؤوب لاستكشاف نفسه والبيئة المحيطة به وما لبث أن تكشفت الطبيعة عن أسرارها وأماطت اللثام عن مكنوناتها ، فصال وجال المخلوق العاقل في أرجائها ودرس دقيقها وعظيمها وجزيئاتها، وخرج مستكشفا الفضاء الخارجي عسى وعل أن يجد شبيها لكوكبه الجميل ليستعمره ولينشر ذراريه فيه. ولقد طاق العقل البشري في اختراق آفاق الجسد الذي يسكنه مستكشفا مكنوناته النفسية والعضوية باحثا عن ما يضمن له الخلود في عالم الفناء الذي يحياه، فشخص بصره وبصيرته لفك شفرات تكون خلاياه ، وعبر جهود سلسلة من علماء الأحياء، تم اكتشاف الحمض النووي DNA  الموجود في نواة الخلية الذي يتكون من كروموسومات أو صبغات تحتوي على المعلومات الوراثية للكائن الحي كسماته الشكلية من لون وطول وقصر وغيرها من الصفات التي تحدد معالمه الجسدية العضوية والذهنية بل وحتى الأمراض والتشوهات الخلقية التي تنتقل بالوراثة.

يقول الخالق عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النور- 24) ويقول جل شأنه {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، يبين الله تعالى في الآيات الكريمة أن جوارح الإنسان تشهد عليه يوم القيامة وأن الله سينطقها وآلية النطق غير واضحة وغير مدركة بالمعطيات العلمية الراهنة -على الأقل- في ضوء عدم وجود آلة ناطقة لهذه الجوارح مشاهدة في هذه الدنيا، فهل النطق هنا فعلي أم مجازي ؟ أم إن الجوارح تدلي بشهادتها من خلال بينات مخزنة في خلالياها شبيهة للمعلومات التي يكتنزها DNA في نواة الخلية.

يقال إن الإنسان ابن بيئته أي أن التنشئة الأبوية والاجتماعية هي التي تحدد سماته إلا أن العامل الوراثي له دور كبير في السمات الفسيولوجية والسيكولوجية للأشخاص لدرجة يمكن أن نقول |أن الإنسان أكبر ما يكون صنيعة موروثاته البيولوجية، ولقد أجريت دراسات خلصت إلى أن جينات الإنسان لها الدور الحاسم في طوله ووزنه وذكائه ومرضه وميوله واختياراته الحياتية ونفسيته، وبذلك فإن الإنسان كائن مبرمج من أسلافه، وليصنع تاريخه الخاص، عليه أن يتغلب على بيئته وطبيعته الموروثة.

إن أكثر الأمور إثارة فيما يتعلق بالحمض النووي DNA   هو إثبات ونفي النسب حيث يمكن عن طريق فحص هذا الحمض التعرف على السلالة النسبية للشخص القريبة والبعيدة، وظهرت شركات تقوم بإجراء الفحص للتعرف على المكون النسبي للأفراد، وفي واقعة ما، رفعت امرأة على أحد ملوك أوروبا السابقين دعوى تدعي فيها إنها ابنة الملك الغير الشرعية وتطالب بإلحاقها بنسبه وتمتعها بامتيازاتها الملكية وفعلا أجبرت المحكمة الملك على إجراء فحص الحمض النووي وحكمت لصالح المرأة بعد أن أظهر الفحص أنها ابنته البيولوجية.

وأنا أتأمل هذه القصة، يجول بخاطري الأطفال الأبرياء الذين يتم رميهم بدون ذنب اقترفوه ليتربوا بعيدا عن جذورهم وليعيشوا حياة تعيسة وحرمانًا مؤلمًا وقاسيًا على حين من جنى عليهم يتمتع بحياته، فهؤلاء الأطفال بالنسبة لآبائهم مجرد شهوة عابرة أخرجت في واقع مظلم أنفسًا ظماء للمسة حانية من أقرب الناس إليها، لذلك مع التأكيد على مثبتات النسب الشرعية فإن نتائج فحص DNA لها أهمية كبيرة ومعتبرة في معرفة وإثبات نسب مجهولي الأبوين، وهذا يتطلب أن يكون هناك سجل وطني للبصمة الوراثية تشرف عليه الأجهزة المختصة.

تعليق عبر الفيس بوك