تعويذة الفراشة

 

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

تقف الفراشة بكلّ ما أتاها الله من خِفَّة على زهرة أو على يدّ إنسان تمتد بحبّ إليها، ثم تطير تاركة خلفها أثرا عميقا لا يُرى؛ فالبصر يتوه في غمرة ألوانها محاولا الإحاطة بتفاصيل رونقها دون جدوى؛ فسرعان ما تخطفها خِفتها ويبقى أثرها آسرا، ملأ أجنحتها سحر يسحر، وفن فاق دبج المبدعين وألوان بهيجة متباينة وفريدة، أجنحتها الصغيرة حوت من الإبداع ما لم تستطع ريشة الإتيان به.

لا شك أنه شعور يستعمر الناظر، ويدخل السّرور قلبه ويشعره بجمال ما حوله وبما في نفسه من قبح.

لا يهم تفقّد الملامح في المرآة للبحث عن مواطن الجمال في الوجوه والأجساد، فوجوده يُعلن عنه ويفرض كينونته؛ فينعكس تلقائيا على ما يحيط به؛ فالفراشة لا تتفقد ملامحها في المرآة ولا تعلم حين تزور الأزهار وتلاحقها الأبصار أنها متأنقة بجناحين ملأهما اكتناز السحر والإبداع؛  لكنها تعمل على نثر أناقتها في مُحيطها؛ فيشعر بها من تمر بجانبه، وتكسبه بريقا في عينيه وبهجة في قلبه، وترسم ابتسامة ربيعية على محياه؛ تمنحه رونقا وجاذبية وتكسبه طاقة تعينه على شؤون يومه.

للفراشة أثرٌ لا يُرى بالرغم من صغر حجمها ورشاقة حركتها، يبقى مع المدى غير  قابل للزوال، وهذا ما أشار إليه الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته "أثر الفراشة"، الذي استطاع بعبقريته الفريدة أن يجمع فيها بين الدلالة الفيزيائية للفراشة وبين الدلالتين الأدبية والفلسفية معا؛ فالغموض الذي يستحوذ على أثر الفراشة يكمن فيه جاذبيتها التي لا تختلف عن الجاذبية في قصيدة درويش، التي شغلت النقاد برؤيتها الفيزيائية في قالب أدبي فلسفي عميق بديع.

بعيدًا عن تعقيد المصطلحات يمكن القول إنّ علم النفس اهتم بتأثير الفراشة، وتوصل إلى تطورات الظروف الأولية البسيطة مع مرور الوقت وإحداثها تغيرات كثيرة غير متوقعة وصادمة في نتائجها؛ فقد يسبب رفرفة جناح فراشة في جزء صغير من البسيطة حدوث كارثة أو إعصار في الجهة الأخرى منها، وهذا ما يحدث في "نظرية الفوضى" القائمة على أنّ الأحداث البسيطة تقود إلى ما هو أكبر منها مع بقاء أثرها وصعوبة تجاوزه، مهما كان سلبا أو إيجابا وعليه تترتب النتائج وهذا  ما يسمى بتأثير الفراشة.

وقد أثبت العالم الأمريكي إدوارد لورنز، مهارته في الجمع بين تخصص علم الأرصاد الجوية وعلم الرياضيات، وفي إحدى عملياته التنبوئية بالطقس توصل إلى نظرية الفوضى، حيث قاده خطأ بسيط قام به إلى إحداث تغيير كبير في تجربته التي تترتب عليها تنبؤاته؛ فاختصاره بعض الكسور العشرية في عمليته الحسابية أحدث فرقا كبيرا.

وعند الإمعان فيما تنص عليه نظرية الفوضى نخلص إلى أهمية العناية بالتفاصيل، وإعطائها مساحة من الاهتمام ومعرفة مدى تأثير الفراشة في الأمور الديناميكية.

ومن أهم الدلالات التي توصل إليها علم النفس عن تأثير الفراشة، هو أن الفراشة رمز للحركة والتغيير؛ فالإنسان بحاجة مستمرة للتغيير الإيجابي لرفع مستوى تفكيره الذي بدوره ينعكس على أمور حياته.

ومن أهم الأمور التي يجب مُراعاتها في تأثير الفراشة، التعامل مع الطفل، فالاهتمام بالتفاصيل عند توجيهه بعيدا عن التخويف بالعقاب أمر في غاية الأهمية؛ فالتخويف يخلق في نفسه أثرا سلبيا بعكس الأثر الإيجابي الذي يجسده في نفسه التوجيه دون تخويف؛ فبذرة الخوف تكبر مع المدى وتلازمه طيلة حياته.

وكان للفراشة نصيب وافر من الاهتمام عبر حقب التاريخ المختلفة في ثقافات الشعوب؛ فقد ركزت مختلف الثقافات في العالم على دلالتها الروحية، ففي أمريكا الوسطى يعتقد سكان المكسيك أن المحاربين القدامى يتحولون إلى فراشات بعد موتهم، وفي الثقافات الأمريكية الأصيلة الفراشة رمز التغيير والتحول ووسيلة التواصل بين أسلافهم قديما، أمّا في الديانة المسيحية فترمز للولادة والتحول الروحي وللعلاقة الروحية العميقة مع الإله، وفي عيد الفصح ترمز إلى القيامة والبدايات الجميلة.

وفي الثقافة السلتية ترمز لروح الطفل الميت والثروة والأمومة والأنوثة، وفي الثقافة الإفريقية تشير إلى التحول في المراحل العمرية للإنسان والتغيير المجتمعي، وفي الثقافة اليابانية ترمز إلى أرواح الموتى، وفي الصين ترمز الصور المزدوجة للفراشة مع الورد إلى الوئام والولاء والحبّ المتبادل.

وهناك ما يعرف بـ"الشعور بالفراشات"، وهو ما يطلق على الدهشة أو السعادة التي تجتاح القلوب بفعل الحبّ، ويقال إنه شعور مبدئي لا يُمكن البناء عليه سرعان ما يزول، بينما قد يبقى له بعض الأثر. كما وضع المهتمون بالفراشات دلالات رمزية لألوانها؛ فالفراشة الحمراء ترمز إلى الخيانة والغضب والخطر، وترمز السوداء إلى الموت والحظ العاثر والخبر السيئ، على عكس الفراشة البيضاء التي تدل على النقاء والسلام وحسن الحظ، كما ترمز الزرقاء إلى النُبل والشرف، بينما الصفراء ترمز للسعادة التي تحفها المخاطر وسوء الحظ، أما الثروة والنجاح فترمز إليهما الفراشة الخضراء، وتميزت الفراشة البرتقالية بالرمز للعاطفة والشفاء والتركيز على نيل الأهداف مع وجود العدوانية، وانفردت وحدها الفراشة البنية بالبدايات السعيدة والحظ السعيد.

وفي ظل المعتقدات بدلالة الفراشة، يتم عمل تعويذة للعروسين في اليابان وبعض دول العالم، لتجسيد الأسرة السعيدة، وذلك من خلال عمل رمز مُبتكر على شكل اثنتين من الفراشات الأنيقة لهما، كما تحرص النساء في اليابان على لبس الحلي المزخرفة بالفراشة؛ لاعتقادهن أنّ الفراشة تجسّد الفتاة الجذابة فيحافظن على جمالهن وشبابهن من خلال مجوهرات الفراشة.

إن التأخيذ المؤثر في النفوس والمحرّك للعاطفة جرّاء أثر الفراشة بمثابة التعويذة؛ فالساحر كما يُقال يلجأ إلى ما يسمى بالتعويذة للتأثير على دماغ الشخص المراد سحره، فيقع تحت تأثير حالة معينة من الحبّ أو الكراهية أو المرض؛ بينما أجنحة الفراشات تعمل الشيء ذاته من خلال ما يكمن في أثرها من السّحر الحلال.