يا إله الكون يا سندي

 

أنيسة الهوتية

 

"يا إلهَ الكَونِ يا سَندي

أنتَ يا مَولايَ مُعتمدي

فبدنياي وآخرتي

يا إلهَ العَرشِ خُذ بيدي

ما رأتَ عَينٌ وَليسَ تَرى

مِثلَ طهَ في الوَرى بَشرا

 

عِند استماعي لِتلكَ الأبيات أشعر بِطاقةٍ نورانية تُشعُ مِنها بِقوةً هائلةً تفصِلُ الروحَ عَن النَفس وتَجعلُه يُحلِقُ في أُفقِ الله مُوحِداً مُكبراً مُحوقلاً مُستغفرا مُسبحاً للهِ جَل جلاله، مُستلذاً بِمُتعةٍ لا تألفها سِوى الأرواحُ التي تُحَلِقُ في دَرجاتٍ عُلا مِن السماواتِ السَبع ولا تُقاربُ الأرضَ أو تدنوها إلا بما هُو حَقٌ عَليها لأجسادها. وذاتُ المُتعةِ والانسجامِ الروحي يتضاعفُ أضعافاً مُضاعفةً في أداءِ الصلاةِ وخاصةً في جَوفِ الليل، وتلاوةِ القرآن الكريم وترتيله، والتقربُ إلى اللهِ بشتى أنواعِ الأذكارِ والصلاةِ والسلام على حبيبهِ المُصطفى. وَلِلأسفِ الأرواح التي جذبتها أنفسها إلى الأسفل وقاربت الأرض، فأحبت الدُنيا حُباً جَما فإنها لَن تستطيع أن تستشعِرَ تِلك المُتعة الشفافة البيضاء كمُتعةِ نزول المطر الحديثِ بربهِ على قلبِ طفلٍ بريءِ نقيٍ طاهِر مَهما حاولت، حتى تتطهرَ مِن انجذابِها وتعلقها بشهواتِ الدُنيا.

 وجلساتِ الذِكرِ، والتسبيح، والاستغفار، والصلاةِ على الحبيب المُصطفى أيامَ الجُمعة بقراءةِ قصيدةِ البُردى، وسأذكرُ مِنها:

"والنَفسُ كَالطِفلِ إن تهملهُ شَبَّ على حُبَ الرَضاعِ وإن تفطمهُ ينفطم

 فاصرف هواها وحاذر أن تُوليهُ إنما الهوى ما تولى يُصمِ أو يَصمِ

 وراعِها وَهيَ في الأعمالِ سائمةٌ وإن هِيَ استحلَتِ المَرعى فلا تُسِم

 كَم حسنت لذةٍ لِلمرءِ قاتلةً من حيثُ لَم يدرٍ أن السُم في الدسم"

وتِلك الحِكمُ الموجودةُ في القصيدة مع القصائد الأخرى للإمام الشافعي كانت تستحوذُ على الأفكارِ والرغبات وتَهزِمُ النفس الأمارةَ بالسوءِ من خلال اللاوعي وتصقلُ شخصية الإنسانِ الحاضر لتلك الجلسات أو الحلقات وَهوَ يُردِدُ وراء القارئ بالصلاة على الحبيب، ومِنهم من كانَ يبكي شوقاً لهُ صلى الله عليه وسلم ويُرَددُ يا حبيبي يا رسول الله وفي قلبهِ ألمٌ وحُبٌ وحرقةُ شَوقٌ للقائهِ ونيلِ شفاعتهِ وبالتالي اتباعُ سُنتهِ إرضاءً لَه وللهِ سبحانه وتعالى.

وَمَع اندثارِ كُلِ تِلك الحلقاتِ والجلسات بِحُجةِ أنها بدعة اندثرت الكثيرُ من الروحانياتِ واقتصرت على الفرائضِ مِن العباداتِ التي أيضاً لَم تُولِها تِلكَ الأنفُسُ المشغولةُ بالحياةِ حجماً مِن الطاعة أو التشوقُ لأدائها وللخضوعِ بين يدي الله سبحانه، إنما تأديتها فقط حتى لايكونوا من فريق المنافقين أو لربما فعلاً يكونون من فريقهم بأدائها رئاء الناس وليس للعبادة الخالصة لوجه الله تعالى تقرباً منه وارتقاءً إليهِ.

وَلِلأسفِ اضطرُ أن أقولَ إن بعض البِدع التي لَم ولن تُضِر -بَل تنفع- كان مِن الواجب عدم اندثارها للحفاظِ على أرواحِ الأجيال القادمة في عَلياءٍ كَما أرادَ الله لِلمُسلمين وكما كانوا السلف الصالح، وعدم إنجرارها وراء النفس وشهواتها. فَمِثلُها مِثل بعض الأعراف المُجتمعية التي لازالت باقيةً في بعض القُرى والتي ساعدت أهلها على بِناءِ لَبنةِ مُجتمعٍ أقوى عَن مُجتمعاتِ المُدنِ إنسانياً، وأخلاقياً، وعاطفياً.

فواللهِ أصبحنا في زَمنٍ نَسي الإنسانُ فيهِ أنهُ خُلِقَ لِيَموت، والمطلوبُ مِنه من يومِ بلوغهِ إلى يوم مماتهِ أن يعبد الله :(وَما خَلقتُ الجِن والإنسَ إلا لِيَعبدون). وهذه العِبادةُ هي الفرشاة والأعمالُ هي الألوان وحياتهم هي اللوحة التي سيرسمونَ عَليها، وعلى جمالها أو قُبحها سَيُجازون في الآخرة واختيارُ نوع الجزاء الذي يريدونهُ لليومِ الذي تكون فيه الحياة مستقراً ومقاماً هو اختيارهم! والعبادةُ لها أوجهٌ كثيرة، فمن المُمكِن أن يعيش الإنسان حياته مُختلطاً بالناسِ، مُستمتعاً بالحياةِ وبِما أتاهُ الله، جاعلاً في كل فعلٍ وقولٍ وعملٍ ونيةٍ عبادة! 

وَفِي كُلِ نَفَسٍ ثَوابا وَحَسنة.