أحاديث أنثروبولوجية

 

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

"يبدو أن التطوُّر التاريخي لعمل علماء الأنثروبولوجيا يحدد بوضوح مجال المعرفة الذي لم يعالج حتى الآن من قبل أي علم آخر" فرانز بواس.

*****

كما هو معروفٌ لدى المهتمين بأن علم الأنثروبولوجيا- أي علم الإنسان- هو أحد العلوم الحديثة والتي لها- كما العديد من العلوم الأخرى- امتدادٌ أو ارتباطٌ بعلومٍ مشابهةٍ بنفس الخط؛ فالأنثروبولوجيا لها علاقة وطيدة بعلم الآثار، وباللغويات وكذلك بالجغرافيا، وليست بعيدة عن علم الجيولوجيا، وفي كثير من الجامعات يتم تصنيفه ضمن العلوم الاجتماعية، وفي جامعة الكويت يعدُ تخصصَ الأنثروبولوجيا ضمن قسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، وأيضًا هو علم قريب للباحثين في علم النفس.

تُقسَّم كلمة الأنثربولوجيا إلى كلمتين يونانيتين هما: Anthropos وتعني إنسان، وlogos وتعني علم؛ ليتشكّل (علم الإنسان)، ومن أشهر تعريفات هذا العلم في العديد من المراجع أنه: "علم الإنسان والحضارات والمجتمعات البشريّة، وسلوكيّات الإنسان وأعماله"، وهذا هو التعريف العام للأنثربولوجيا؛ حيث "ظهر مصطلح الأنثربولوجيا الاجتماعيّة والتي تُعنى بعلوم الإنسان ككائنٍ جماعي".

والأنثربولوجيا يعد علمًا معاصرًا إلى حد ما، وبدأ تدريسه قبل أكثر من قرن، ويعتبر بعض المتخصصين أن السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر تمثل البداية الحقيقية لتطور هذا العلم. وفي القرن التاسع عشر بدأت كتب الأنثربولوجيا القديمة في الظهور في كل من أمريكا وأوروبا، كما ظهرت في الوقت ذاته المدارس التي تعنى بهذا العلم، مثل المدرسةِ التطوريّة ومدرسة القانون المقارن. ومن الأسماء الكبيرة التي ساهمت في إثراء هذا العلم وتدريسه: جيمس فريزر، وراد كلف براون، ومالينوفسكي، وألبوت سميث، وغيرهم من عباقرة الأنثربولوجيا، إضافة لمؤلفات ضخمة في هذا الشأن ومدارس مهمة أثرَتْ هذا العلم وجعلته من أهم العلوم التي تدرّس أدوات الانثروبولوجيا ومناهجها وأقسامها وعلاقتها بالعلوم الاخرى.

وتنقسم الأنثربولوجيا إلى: الانثروبولوجيا الطبيعية، والانثروبولوجيا الاجتماعية، والأنثروبولوجيا الثقافية، والانثروبولوجيا التطبيقية. كما إنها ترتبط بعلوم أخرى مثل: الإثنولوجيا، والآركيولوجيا، وعلم الاجتماع.

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، شهدت الأنثروبولوجيا تطورًا كبيرًا شأنها شأن باقي العلوم؛ حيث أصبح لها عدد من النظريات والمناهج الخاصة بها، وأصبح أسلوب الدراسة الحلقية من النقاط المفضلة فيها. ومن أهم المناهج البحثية في الانثروبولوجيا هو المنهج الطبيعي. وبالنسبة للأنثروبولوجيا التطبيقية، فقد قالت عنها لوسي مير (Lucy Mair) إن ميدان الانثروبولوجيا التطبيقية أصبح من الميادين المهمة للناس؛ لأنها تساعدهم على اتخاذ القرارات الاجتماعية، وفي معرفة أشياء عن السكان، والتعريف بالعادات المختلفة للشعب. (1)

وتُعرَّف الأنثروبولوجيا الثقافية- بوجه عام- على أنّها العلم الذي يدرُس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع له ثقافة معيّنة. وعلى هذا الإنسان أن يمارس سلوكًا يتوافق مع سلوك الأفراد في المجتمع (الجماعة) المحيط به، يتحلّى بقيمه وعاداته ويدين بنظامه ويتحدّث بلغة قومه.

ورفض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، إلى حد كبير فكرة أن جميع المجتمعات البشرية يجب أن تمر عبر نفس المراحل بنفس الترتيب، على أساس أن مثل هذه الفكرة لا تتناسب مع الحقائق التجريبية. وبدلًا من ذلك، جادل بعض علماء الإثنولوجيا في القرن العشرين، مثل جوليان ستيوارد، بأن مثل هذه التشابهات تعكس تكيفات مماثلة مع بيئات مماثلة، على الرغم من أن علماء الإثنوغرافيا في القرن التاسع عشر رأوا الانتشار والاختراع المستقل على أنهما نظريتان متنافستان ومتنافستان.

لقد ساهم العالم البريطاني الأنثروبولوجي الشهير إدوارد تايلور في تدعيم العلاقة بين الثقافة والأنثروبولوجيا، بحيث أصبح من غير الممكن النظر إلى الثقافة دون العودة إلى الأنثروبولوجيا التي قدمت أجود تعريف للثقافة، وهو التعريف الذي اشتهر به تايلور في عصره وما بعد عصره، وحقق به إنجازاً معرفياً استفادت منه الأنثروبولوجيا في تعزيز مكانتها بين العلوم الاجتماعية الأخرى.

ويرى الأستاذ صمويل كريمر أن الحضارة السومرية هي التي أسست البحث الأنثروبولوجي في تاريخ البشرية، فقد عكف السومريون- أسلاف الأنثروبولوجيين الحديثين الذين يعنون بدراسة الحضارة- بشغف على تحليل عناصر المدنية كما عرفوها، وجزاوها إلى نيف ومائة نظام، وحرفة، وصنعة، وميول، وأسلوب عمل. (2)

أما موضوع الأنثروبولوجيا الثقافية- كما يراه هوايت- فيدرس السلوك الإنساني، كما هو الحال في علم النفس، لكن الاختلاف والتباين بين العِلميْن تكمن في أن الاول يدرسه من خلال الإطار غير الشخصي، في حين يدرسه الثاني في الإطار الشخصي أي من حيث علاقته بشخصية الفرد، بما فيها من عواطف واتجاهات وقيم.

إننا نحتاج في حياتنا، القراءة بجدية في هذا العلم الراصد للكثير من التصرفات البشرية، والذي يرتبط مع علم التاريخ والاجتماع والعلوم السياسية وكذلك الفلسفة وعلم النفس، ومن المهم وضع موادٍ- ولو كانت اختيارية- في المعاهد والكليات الإنسانية لدراسة الأتثروبولوجيا؛ نظرًا لأهمية هذا العلم وتأثيره على الفهم العام لماهية الإنسان ونزعاته الانفعالية، وكذلك علاقة هذا العلم بدراسات التنوع الديموغرافي.

 

*********

  1. الانثروبولوجيا التطبيقية.. دراسة لإنسان سيناء، المؤلف : أ. د فاروق أحمد مصطفى، الناشر: دار المعرفة الجامعية، طبعة 2018م، صفحة 18.
  2. كتاب: "اللسانيات الأنثروبولوجية"، المؤلف: د. جواد كاظم التميمي، الناشر: دار كنوز المعرفة (الأردن)، الطبعة الأولى 2019م، صفحة 298.