صالح البلوشي
في الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات، فإنَّ هناك معركة طاحنة تدور في قطاع غزة الصامدة، معركة بين أهلها الشرفاء الأبطال وقوات الاحتلال الصهيوني الغاشم، هذه المعركة هي تجسيد للمعارك البطولية في التاريخ ومنها معركة كربلاء الخالدة، التي قدمت للعالم أعظم الدروس في البطولة والفداء ومواجهة الظالمين.
استطاعت معركة كربلاء أن تُثبت للعالم أنَّه مهما كانت قوة الأعداء وسطوتهم وجبروتهم وعلوّهم في الأرض، فإنَّ أصحاب الإيمان والحق والعزيمة قادرون على الانتصار عليهم عاجلاً أو آجلا، وإن سقط الحسين وأهله وأصحابه شهداء في أرض كربلاء، فإنَّ الثورة لم تسقط ولم تهزم ولم تدخل في مفاوضات سياسية مع الظالمين، وإنما انبرى ثلة من المخلصين للثورة وإمامها ومبادئها للانتقام ممن شارك في هذه المجزرة الدموية، ولإعلاء راية الجهاد والإسلام عالية خفاقة، وقدموا للعالم أجمع دروسا في التضحية والفداء، ومن هؤلاء سليمان بن صرد الخزاعي والمختار الثقفي وزيد بن علي ومحمد بن عبدالله النفس الزكية وثورات الشراة وغيرهم.
لقد انتصر الحسين لأنَّ المبادئ والقيم التي حارب من أجلها وقدم أهله وأولاده وأصحابه من أجل تحقيقها هي التي بقيت وتجسدت في ثورات أخرى، استطاعت خلال أقل من 80 سنة إنهاء حكم الظالمين، واستطاعت أن تبقى حية في نفوس المسلمين إلى يومنا هذا، وأما الذين قتلوا الحسين وشاركوا في هذه الجريمة الشنيعة فأين هم ومن يُدافع عنهم الآن وأين مبادئهم؟!- إن كانت لهم مبادئ.
وكما قال المفكر والأديب عباس محمود العقاد في مقدمة كتابه "الحسين بن علي أبو الشهداء" (ص:192): "إن الشهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم والأسبوع والعام، ولكنها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والأجيال ومدى الأيام، وهي حقيقة تؤيدها كل نتيجة نظرت إليها بعين الأرض أو بعين السماء على أن تنظر إليها في نهاية المطاف".
لقد كانت معركة كربلاء ثورة وعي ضد المفاهيم المُنحرفة التي حاولت تحريف مسيرة الإسلام وتزييف المبادئ الإسلامية التي جاء بها النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام وأنزلها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، ولذلك قال الإمام الحسين لأصحابه: "ألا ترون أنَّ الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه"، لذلك كانت ثورة الحسين هي ثورة الحق ضد الباطل، ثورة الوعي ضد الجهل، ثورة المبادئ ضد الانحراف.
واليوم.. ونحن نعيش هذه الذكرى الخالدة، علينا أنْ نستذكر المبادئ الخالدة التي نادى بها الحسين، وأن نسترجع ذكرى الحسين بتفاصيلها التي ذكرها ثقات المؤرخين في كتبهم المُعتبرة التي تعتبر مراجع مهمة في التاريخ الإسلامي، ونتجنب المصادر غير الموثوقة والتي لعبت فيها أيادي الدس والتحريف وحذَّر منها الكثير من العلماء، ولكنها -للأسف الشديد- متداولة بشكل كبير جدا بين كثير من خطباء المنابر اليوم وكذلك في بعض الكتب التي تتحدث عن الحادثة.
وإذا كُنا نؤمن بأنَّ الحسين ثار من أجل نشر الوعي في الأمة وتغيير الواقع المؤلم الذي كانت تعيش فيه، فعلينا أن ننتهج نهج الحسين في غرس الوعي بين أبناء الأمة، خاصة في الوقت الذي يتكالب فيه أعداء الأمة في الداخل والخارج على الأجيال الجديدة، وظهور الكثير من الحركات المشبوهة التي ترتدي عباءة التدين وتدعي حب الصحابة وأهل البيت، لتقوم بإثارة الضغائن بين المُسلمين عن طريق عشرات القنوات الفضائية ومئات من القنوات الخاصة في اليوتيوب، بتمويل من جهات مشبوهة.
... إنَّ التاريخ ليس سطورا في كتب أو مراجع وليس حكايات نستأنس بقراءتها، بل محطات فارقة في حياة هذه الأمة، نستلهم منه ونربطه بواقعنا سعيًا نحو زيادة وعي الأجيال وتحصينها من الأفكار المشبوهة.