د. صالح الفهدي
المراقبة.. المحاسبة.. وقياس الأداء
إذا تأخرت في تجديد تصريح، أو ترخيص لأيام فستحاسبك الجهة المعنية على التأخير بغرامات قد تفوق رسوم التجديد، لكن في -المقابل- من يحاسب الجهة ذاتها حين تتأخر عليك في إنجاز معاملاتك، وقضاء مصالحك ليس لأيام بل لأشهر وسنوات؟!!
في إحدى المصالح الحكومية قلت لأحد المديرين "المُعطِّلين" لمصالح الناس بسبب "الفهلوة" التي يظهرها دائماً لإعاقة مصالحهم، وتعقيد مشاريعهم، قلت له بعد عام كامل من ربض المعاملة في دائرته: ما رأيك أن نحتفل سوياً بمرور عام على الموضوع لديكم؟! تصنَّع ضحكة مبتسرة، ثم أضاف عاماً كاملاً آخر على التأخير، قبل أن يرفض المعاملة..!! منذ أيام قال لي أحد العاملين في نفس القطاع الذي يعمل به ذلك المدير: "ليس ذلك مكانه"، في إشارة إلى عقلية التعقيد (الفذة) التي يتمتع بها ذلك المدير الذي لا يزال يستمتع بـ"لاءاته" التي تحطم مشاريع الناس، وتئد آمالهم..!
لا نقف هنا عند أهمية مراقبة أداء الجهات الخدمية وحسب، بل ومحاسبتها أيضاً، لأن المراقبة لا تكفي في حد ذاتها، وليس لها من فاعلية على الأداء، ولكن إن قرنت بالمحاسبة فإنها ستؤتي ثمارها لأنها تدرك تمام الإدراك أن أي تقصير ستكون له عواقبه.
المراقبة هي جزء من تصحيح المسار، لكنها لا تنفع وحدها دون محاسبة، لأن كل واجب يستدعي المراقبة والمحاسبة، وهذان هما أعمدة الحوكمة التي ترفع شعار الشفافية والنزاهة، وذانك هما أدواتها الأبرز.
إشكالية التأخير في إنجاز المعاملات، وقضاء المصالح، تعدَّت مسألة الظاهرة، لتصبح مرضاً عضالاً أصاب بعض الجهات الخدمية التي تتمحور حولها العديد من شؤون المواطن ومصالحه بالعلل، متسببةً في وأد مشاريع طموحة، وفتور عزائم وقادة.
إن جزءاً من المراقبة ليس التدقيق على إنجاز الأعمال بطرق مختلفة، وإنما أيضاً إشراك المراجعين المتعاملين مع هذه الجهات عن طريق التقييم المستمر لأداء الدوائر، والأقسام، والمديرين، والموظفين الذين يتعاملون مباشرة مع الناس، ووضع معايير تقييم لهم.
في الجهات الخدمية التي هي على تماس مباشر مع الناس، لا يجب أن يحظى رئيس القسم أو المدير بصلاحية مطلقة لتقييم موظفيه وحده، ولا يجب أن يحظى المدير العام بالصلاحية المطلقة أيضاً لتقييم المدير الذي ينجز مصالح الناس وحده، بل يجب أن يؤخذ رأي المراجعين المتعاملين وتقييماتهم للموظفين ورؤساء الأقسام والمديرين مأخذ الاعتبار والتقدير؛ بحيث لا يقل تقييمهم لهم عن نسبة 50%، حينها سنجد أنَّ كل من يتعامل مع المراجعين يسعى لكسب رضاهم وفق الأطر القانونية، فمن كان صاحب تكشيرة في وجه الناس، سيتصنع الابتسامة في وجه الناس حتى يتعود عليها، ومن كان صاحب عقلية مُعقدة، سيبدأ في التيسيير على الناس، ومن كان مغروراً بسلطته ومنصبه سيتعود على خلق التواضع، ومن كان صاحب أسلوب جاف صلف مع الناس، سيلين وتبش قسماته، وكل ذلك من أجل التقييم الحسن الذي له أثره في ترقية الموظف الإدارية والمادية.
أخبرني ابني أنه حين زار دبي مؤخراً كان يستخدم سيارات "أوبر"، ولفت نظره أن كل خدمة توصيل يقوم بها أحد السائقين التابعين للشركة، ترفق بتقييم في التطبيق حول سلوك السائق، أخلاقه، وقيادته، ونظافة السيارة التي يقل فيها المسافرين، وقد لاحظ أن جميع السيارات التي استقلها كانت في غاية النظافة، ويرجع ذلك السبب إلى وجود التقييم، لأن الشركة تأخذ رأي المتعاملين معها في الحسبان، فمن يقل تقييمه عن معدل مُعين، يُنهى التعاقد معه فوراً.
إذا طبقنا مفهوم "التقييم" للموظفين المسؤولين في الجهات الخدمية، فإن الخدمات لا شك سترتقي معدلاتها، وستتسارع وتيرة الإنجاز في تلك الجهة، فإذا كانت تقييمات الموظفين لا تخلو من تحيُّزات معروفة -إلا نادراً- فإنَّ متوسط تقييمات عدد كبير من المتعاملين لا يمكن أن تكون متحيزة، وعندها ستضمن كل جهة تحسين خدماتها التي تقدمها للناس. وفي المقابل، تقوم بمكافأة الموظف الذي يحصل على تقييمات عالية من المتعاملين، وتتخذ الإجراءات المتدرجة نحو الموظف الذي يحصل على أدنى معدلات التقييم من قبل المتعاملين.
لدى دولة الإمارات العربية المتحدة برنامج يسمى "برنامج الإمارات للخدمة الحكومية المتميزة"، يتوافق مع ما طرحته من تقييم المتعاملين للموظفين الذي يقومون بخدمتهم؛ حيث يشمل البرنامج سبع أولويات إستراتيجية لتقديم خدمات "سبع نجوم" متميزة، لتحسين نوعية تجربة المتعامل، وإسعاده على مستوى الجهات الاتحادية؛ وبالتالي تطوير كفاءة العمل الحكومي عبر تعزيز ثقافة إسعاد المتعاملين وتطوير قنوات تقديم الخدمة والتحول الذكي للحكومة، وغيرها من الجهود المحفزة للجهات الحكومية نحو إسعاد المتعاملين.
وتحت "القاعدة الذكية للمتعاملين والخدمات"، يقع "مؤشر السعادة" الذي هو عبارة عن نظام ذكي للقياس الفوري لمستوى سعادة المتعاملين عن الخدمات الحكومية الاتحادية المقدمة في مراكز سعادة المتعاملين؛ حيث يوفر المؤشر نتائج حية للمسؤولين والقيادة العليا، تستغرق إجابة المتعامل عن أسئلة المؤشر 15-30 ثانية؛ حيث يقيم المتعاملين مستوى السعادة عن الخدمة فور الانتهاء من المعاملة. وبناء على اختيار المتعامل لمستوى السعادة، يعرض المؤشر خيارات للتعرف على أسباب عدم السعادة أو جوانب تقديم الخدمة التي تحتاج إلى تحسين.
أعتقد أن الأمر بسيط للغاية والتجارب الواقعية ماثلة، لا تحتاج إلا إلى إرادة فاعلة لتطبيقها على أرض الواقع، هذا كل ما تحتاج إليه فقط لتسهم في تسهيل الإجراءات المعقدة لقضاء مصالح الناس.