مَن أولًا.. السائح أم القطار؟

 

 

أنيس بن رضا بن قمر سلطان

تتجاوز سرعة القطار السريع أو قطار "الطلقة" 300 كم في الساعة، مما يعني أنَّ المُدن تستطيع أن تنافس جيرانها وتفتح أبوابها لهم من غير الاستثمار الهائل في الطائرات، ولكن مهلا: أين القطار؟ ذلك الاختراع الذي أحاط بدول الشرق الأوسط منذ قرن من الزمن ليوجهها إلى درب النمو قبل أن يتآمر عليه سماسرة الفولاذ والعقار. وما عيب الاستثمار الهائل في الطيارات إذا ما جلبت لنا ملايين الزوار؟ ما نفتقده اليوم هو حتمية وجود مليون زائر على الأبواب كل شهر لكي نبني المرافق لهم، فعملية التخطيط طويل المدى أخذت منحنى طويل المدى.

وتقوم دول كثيرة باستخدام هذا الأسلوب -أي أسلوب فرض الواقع- لكي يُهيئ الجميع أوراقه ويتعايش مع الجديد في التو واللحظة. كم من دولة تأخرت في تنمية شبكات الاتصال، ولكنها واكبت التطور باستخدام تقنية الهاتف الجوال دون مجاملة الشبكات التقليدية. ورجوعاً إلى الطائرات، فأسعار تذاكر السفر والإقامة اليوم في دول عديدة في الشرق الأقصى تكاد تكون رمزية في زمن تُعاني فيه شركات الطيران ومرافق الضيافة من آلام كوفيد. ولكن النظرة الأبعد هناك هي استقطاب الملايين والاستفادة الكاملة من استهلاكهم. في المقابل، فنادق الـ10 نجوم تصطف على ضفاف منحدرات الجبل الأخضر بأسعار تؤمن مروحيات خاصة لروادها، فيما يستفيد البعض من بيع العصِيّ المفتولة والرمان والزعتر على قارعة الطريق.

إذا كان هَمّ محركي الاقتصاد منحصرا في إطعام الفرد وشغلهم الشاغل هو التوظيف الإلزامي من غير خلق مقومات النمو والاستمرارية، فأي طموح هذا؟ يجب أن تنصب مبادرات السياسة الاقتصادية في تكوين رأس المال. يستثمر المرء منا وينمو عندما يتوفر لديه ذلك الفائض الموعود. اليوم، الفائض موجود لدى القلة -وهي الحال في كل مكان وزمان- ولكن كلما وسِع الاقتصاد وتنوعت مصادره تمَّت الاستفادة من كل أقطابه لزيادة رأس المال المتاح للأفراد وللاستثمار. فهل نقوم في سياستنا الاقتصادية بدعم القروض الشخصية لاقتناء السيارات (وبالتالي تتعمق الهاوية ما بين أصحاب الأموال وبين مسددي الأقساط)، أم نشترط على المصارف تخصيص جزء من محافظهم لتنمية المشاريع الرأس مالية أولاً قبل التشجيع على الإهدار؟ المصارف – مع تقديري وإيماني بأهميتها في الاقتصاد، ليست بهيئات مستقلة لتقوم بدور التخطيط الاقتصادي. الاستثمار في القطار أو الحافلات العامة مثلا يخفض الحاجة لشراء السيارات. رجوعاً للجبل الأخضر، قد نشترط على كل مشروع منح أسهم لسكان الموقع مع تخصيص نسبة للتعمير والتعليم لكي يستفيد أصحاب الأرض من نقلة نوعية ويكون ذلك حافزا للجميع في حماية الاستثمار، ابتداءً من تحدي دراسة الجدوى. المؤسسات الاستثمارية شأنها شأن المصارف، فلا نتوقع منها تخطيطا اقتصاديا خارج مصلحة "أربابها" – وهذا شيء مشروع – ويأتي هنا دور التخطيط المركزي لتكملة الحلقة.

نعم.. قد تكون تلك أمثلة مبسطة، ولكنها تكشف النقاب عن صعوبة وتعقيد تغيير السياسات الاقتصادية. ففي التغيير تصادم وتلاحم، فيه التعليم والإرشاد، وفيه القوة المستمدة من تحقيق المصلحة العامة -فيه أسلوب فرض الواقع. عملية الإصلاح الاقتصادية ليست مسابقة في إرضاء طرف دون آخر بقدر ما هي فرض لإستراتيجية موجهة للمستقبل. حالها من حال إدارة المدرسة التي لا تتورع فيها المديرة عن فرض القصاص على الطالب المتخاذل، وإن شكا أولياء الأمور من صعوبة المنهج (وللأسف ندرك تماما ما تؤول إليه سياسة الإرضاء). وفي أغلب الأوقات تُكسب عملية الإصلاح أبطالها النقد اللاذع والعداء المرير... والمديح والثناء بعد عقد أو اثنين من الشقاء.

الفكر المحاسبي الحريص، والتقدم التدريجي المؤدب، لن يحركا شيئاً -خصوصا عند اقترانهما بثقل الحركة- إذا تحركنا بمقدار بوصة خجولة للأمام، فلنعِ أنَّ العالم من حولنا يتسارع كالطلقة المدوية. حان وقت وضع العقل والمنطق فوق اعتبارات دراسات جدوى من غرباء وإن ذاع صيتهم – نحن أدرى بما لنا وبما علينا. التفكير الجماعي الشمولي لا يعني مشاركة القطاع الخاص فقط. يجب أخذ المواطن في الحسبان وبيئته المباشرة من عمل وتعليم.

ربما علينا تحييد قطار الاقتصاد والاستعانة بصاروخ.

تعليق عبر الفيس بوك