من يُوقِف مسار الخصخصة في بلادنا؟

د. عبدالله باحجاج

ثلاثون شركة حكومية يُنتظر خصخصتها ضمن خطة لخصخصة قطاعات إستراتيجية متعددة ومتنوعة، أي تحويل ملكيتها من الدولة إلى الشركات، محلية ومتعددة الجنسيات، وقد لا يسلم حتى التعليم والزراعة والصيد والغذاء، وليس فقط القطاعات الإستراتيجية المعروفة كاللوجستيات والكهرباء والنفط والغاز...إلخ، وقد التقيت مؤخرا بمسؤول حكومي سابق، ومطلع حاليا، وأطلعني على تفاصيل الخصخصة في التعليم مثلا، ورسالة التمرير وصلتني بصورة مقلقة، لأنني لم أتصور، ولن أتصور رغم اطلاعي، أن الحكومة سترفع يدها عن المجتمع إلى هذه المستويات العميقة، وتسلمه للشركات الربحية، مع ما قد يتقاطع معها من أجندة خارجية في بيئة داخلية تهيئ لها كل الظروف لتحقيقها.

القضية الكبرى هنا تدور حول أنَّ كل هذا يحدث بصورة انفرداية أحادية الجانب، دون مشاركة أو رقابة أو شراكة مجتمعية، فمجلس الشورى غير مُستشار، لعدم وجود فاعلين في مستوى المرحلة الوطنية.

ومن هنا، تتعاظم المخاوف من الخصخصة في هذا السياق، ومن سياقات تعريض الثروات للخطر، ومن جعل خدمات اجتماعية أساسية تحت رحمة شركات جُل همها الربح، ولن تأتي الشركات الأجنبية لبلادنا وهاجسها حماية المجتمع، وإنما من أجل الأرباح الفلكية والمضمونة مسبقا، خاصة وأنَّ سياسة تحرير الخدمات التي تنتهجها الحكومة منذ يناير عام 2020، تفتح للشركات المحلية والأجنبية شهية السوق العمانية.

أشير هنا إلى تقرير نشر في دورية تسمى "الدبلوماسية الاقتصادية الإيطالية" يحمل عنوان "عُمان: فرص خصخصة واعدة للشركات الإيطالية"، كما سيُغري ذلك الشركات البريطانية بعد أن نقلنا مؤسسات وأجهزة حكومية لبلدها لدواعي عقد مؤتمر للترويج لبيئة الاستثمار في بلادنا. ومن المسلم أن خطة الخصخصة ستجذبها دون شك، وهذا يجعلنا نتساءل عن الضمانات التي تحصّن قرار خصخصة قطاعات إستراتيجية مربحة بذاتها، أو تسليم ملفات وطنية لها علاقة بديمومة استقرارنا الاجتماعي لشركات في ظل الاستفراد بملف الخصخصة؟

ولا يرجع ذلك إلى وجود سوء نوايا لدى القائمين على ملف الخصخصة، خاصة الآن بعد إنشاء جهاز الاستثمار العماني بعد دمج صندوقي الاحتياط العام للدولة والاستثمار، وتغيير أطره وتحديث أنظمته، وإنما مرجعه التضارب في تقدير حجم المصلحة الوطنية من منظور الأفكار الأيديولوجية التي تتصارع الآن.. صحيح سابقا، كانت لدينا هواجس في النوايا، لكن مرده تمثل في صراع المصالح الخاصة.

ومثالنا هنا، خصخصة وظائف في الكليات التقنية، فعن طريق مناقصات يتم تمرير فرص عمل للشركات، وأعتقد ثلاث شركات تابعة لمتنفذين كبار، حيث تتلقى هذه الشركات مبالغ كبيرة، وتمنح المدرسين بمن فيهم العمانيون أقل من نصف تلكم المبالغ.

وهذه تجارة للأسف لا تزال قائمة حتى الآن، وهنا نتساءل: لماذا يصمت عليها جهازا الاستثمار العماني والرقابة المالية والإدارية؟ وفيها من استغلال مواردنا البشرية دون أدنى حق يمكن الاعتداد به، وهذه القصة هي من الماضي، لكن لا تزال تضرب الحاضر باستمراريتها حتى الآن في صمت مثير من كل المؤسسات، فكيف لا تنتابنا الهواجس من صراع الأفكار الأيديولوجية في ظل جنوح الفكر النيوليبيرالي الذي يرى أنصاره أنه على الدولة أن تحصر تدخلها الاقتصادي في أضيق الحدود، وتترك للشركات الحرية فيه.

لن نقف هنا عند تفنيد هذا الفكر من حيث أهليته الوطنية، وإنما نتساءل عن أسباب الاندفاع وراء الخصخصة في وقت تنتفي حجج نقص السيولة لمواجهة العجز المالي كما كانت قبل سنتين، وبعد تجربة الخصخصة التي لم ترتق بجودة الخدمات، ولم نشهد سوى الارتفاع في الأسعار، وفي وقت أصبحت الشركات العمانية بعد نجاح مسيرة إصلاحاتها تؤتي ثمارها في سرعة زمنية قياسية؟

وقد أشرنا في مقال سابق بعنوان "نجاح الشركات الحكومية في التواقيت والاستحقاقات المناسبة"، إلى دورها الآن في ضخ الأموال لخزينة الدولة، وتمويل المشاريع الإستراتيجية الجديدة في البلاد. ونذكر هنا بمساهمات الشركات الحكومية بعد إعادة إصلاحها في النقاط التالية:

- رفد موازنة الدولة بأكثر من مليار ريال كأرباح، وليس بيع جزء من الأصول.

- إحدى الشركات الحكومية قلبت الخسائر من 4 مليارات دولار عام 2020 إلى أرباح تجاوزت 1.5 مليار ريال عام 2021.

- الشركات الحكومية التي يمكن أن ينطبق عليها وصف "استنزاف" لا تتجاوز الآن 3 -5 شركات- وفق آخر تصريحات لمعالي رئيس جهاز الاستثمار – فلماذا التوجه نحو خصخصة 30 شركة حكومية؟ بل كيف التفكير في الخصخصة وهناك إمكانية الإصلاح ونجاحه متاح الآن؟

- وأثناء الكشف عن موازنة 2022، تبين أن جهاز الاستثمار سيضخ تمويلات بـ2.94 مليار ريال في 110 مشروعات استثمارية.. إلخ.

وما تقدم، يجعلنا ندافع عن بقاء الشركات الحكومية والقطاعات الإستراتيجية بيد الدولة، كأذرع الدولة الاقتصادية لحماية مجتمعها من جهة، وكمصدر دخل مستدام من جهة ثانية، وإذا ما كانت هناك ضرورة لخصخصة شركات ومرافق عمومية، فينبغي الشراكة في اتخاذ القرار، ولا يكون حكرا على جهة أو السلطات العمومية لوحدها التي قد تتعرض لضغوط دولية من أجل خصخصتها، فهذه ثروات دولة، ولا بد أن تكون الرقابة عليها من قبل كل الشركاء في الدولة، ولا ينبغي أن نغفل كذلك وجود عوامل دولية تشير إلى قرب نهاية العولمة، وتزايد سياسة المقاطعات، واتجاه النظام العالمي الجديد إلى تعدد المراكز أو تعدد الأقطاب، وانتشار اليمين المتشدد في أوروبا؛ فلا نستعجل في الخصخصة التي تعني في ظرفيتها، فتح مجتمعنا لرياح متعددة الاتجاهات وغير منضبطة، قد تضطرنا بشدة، والمؤشرات الراهنة خير دليل.