حق المواطن في الصحة

د. عبدالله باحجاج

سيزداد ما يطرحه العنوان أعلاه إثارة بصورة نستشرف أن تكون أكثر حدة، عندما يُقال لمرضى أمراض مُعينة حرفيا: "لا يتوافر الآن سرير شاغر في المستشفى"، ومن ثمَّ عليهم الانتظار، وقد يكون طويلا، وطبيعة أمراضهم لا تحتمل التأخير في العلاج، وقدراتهم المالية صعبة جدا، وتختزل هذه المُقدمة قضية الفنان مدين مسلم الذي هو طريح فراش المرض في أحد مستشفيات الهند، وعجت وسائل التواصل الاجتماعي بمناشدات عاجلة من أجل تدخل الجهات الحكومية أو الأهلية لتحمل تكاليف علاجه المكلف نسبيا، وظلت دون صدى، مع تأكيدي المطلق أنها وصلت لكل الجهات المختصة في البلاد.

ولما قرَّر عودته لوطنه دون علاج في الخارج، اختزل الحق في الصحة من علاجه في الخارج، إلى قضية تأمين سيارة إسعاف له تنقله من المستشفى إلى المطار، ودارت الاتصالات الرفيعة مع مسقط، وتأمنت السيارة، وعقبها تعلق الحق في قضية توفير سرير له في المستشفى السلطاني، وقد أخذ وقتاً طويلاً حتى تم تأمين السرير له رغم الاتصالات الرفيعة، فكيف دون مستوى هذه الاتصالات؟!!!!

دورة من الإرهاصات الحقوقية المحبطة سيكولوجيًّا تُثقل كاهل المريض وأقربائه، وهم في الغربة ينتظرون العودة للوطن على أمل علاجه داخل الوطن، وهو في غربته لا يتلقَّ سوى المهدئات فقط، كنت أقف على أدق هذه التفاصيل أولًا بأول، ومتابعًا لكل خلفياتها، وقد آلمتني هذه المآلات بل المُعاناة، لن نستنطقها، فهي مُتخيلة، وقضية الحق في الصحة لا تنحصر في فنان مشهور، وإنما كمواطن، ولا نثير هنا قصة العلاج في الخارج، وإنما في الداخل كذلك، ويجسدها هنا صعوبة الحصول للفنان "مدين" على سرير في المستشفى... إلخ.

وأيَّة تحويلات مناطقية لخدمات صحية تتعلق بأمراض محددة، لن يؤمن لها العلاج في الوقت المناسب، لعدم توافر الأسرَّة في المستشفيات في مسقط، كالمستشفى السلطاني، لسببين أساسيين؛ الأول: كثرة المرضى، وثانيا: خفض الإنفاق على قطاع الصحة أسوة بالقطاعات الحكومية الأخرى.

لذلك؛ من الأخطاء لو عُوملت قطاعات مثل الصحة كالقطاعات الأخرى، فتقليل حجم الإنفاق الحكومي لا ينبغي أن يشمل مثل هذه القطاعات، بل العكس الزيادة؛ فالأمراض المستعصية والخطيرة في ازدياد، ولتمركز الخدمات الصحية المتقدمة في مسقط تظل محدودة، وتتعاظم عليها التحويلات من كل المحافظات، ولم تعد تستوعب أصحاب الحقوق، والحديث هنا عن حق من أهم الحقوق الاجتماعية التي ينبغي أن تُؤمنها الحكومة للكل في الوقت المناسب، وعلى قدم المساواة.

كحق من حقوق المواطن مقابل واجباته القديمة والجديدة، وهذه الأخيرة تكمُن في دفع المواطن الضرائب والرسوم من أجل تحصيل حقوقه، على العكس سابقًا، عندما كانت الحقوق تُستحق من منظور الثروات السيادية كالنفط والغاز، والآن تتعاظم الحقوق من منظورين قويين تلكم الثروات السيادية: النفط والغاز، والجبايات، الضرائب والرسوم؛ مما يصبح معه تأمين الحقوق الأساسية متاحا الآن، إلا إذا ما أريد للثروات السيادية أن تظل خارج نطاق الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

ومهما يكن، فتأمين الحق في الصحة مع مجموعة حقوق أساسية، هو مسؤولية الحكومة بامتياز، وستظل في موقع المساءلة عليها؛ لأنها المُؤتمنة على أموال الشعب الخاصة والعامة، وهي المدبِّرة لها؛ فلن تُعذر بنقص بعض الخدمات الأساسية خاصة تلك التي تتعلق بسلامة وصحة المواطن، ومستقبله؛ فلا حُجَّة بعدم توافر المال، فهو الآن متوفر بصورة مثالية؛ فلا يُعقل أنْ يدفع المواطن الضرائب والرسوم من أجل تحسين حقوقه الأساسية، وأسعار النفط والغاز في ارتفاعات قياسية منذ عدة أشهر، ولا تؤمن له حقوقه الأساسية كالصحة.

 ولو رجعنا لقضية الفنان "مدين"، فلن يُقنعني أحد بأنَّ باب العلاج في الخارج قد أُغلق نهائياً الآن ومن كل مصادره الخاصة والعامة تحت ضغوطات ترشيد أو الحد من الإنفاق، وهذا ما يُعزز المطالبات بأهمية صياغة عقد اجتماعي تُحدد فيه الحقوق والواجبات المُعاصرة على قدم المساواة في ضوء التحولات الكبرى التي تطرأ على دور الدولة، وسيرجع الفنان "مدين" غدًا الثلاثاء لتلقي علاجه في المستشفى السلطاني.

إذا لم تتغيَّر السياسة المالية في بلادنا، فسنصل إلى المفاضلة بين من له الأولوية في حق العلاج للأمراض الخطرة: الصغار أم كبار السن؟ هذا مشهد استشففته من متابعاتي لقضية الفنان مدين مسلم، وصعوبة الحصول له على سرير في الوقت الذي يستدعي تأمينه فورا؛ بينما ظل عالقا في الخارج رغم حل مشكلة سيارة الإسعاف حتى تم تأمين السرير له. لذلك؛ نحن نطالب بمزيد من الإنفاق على الصحة خصوصا، لدواعي التوسع في الخدمات الصحية المركزية واللامركزية في ظل ارتفاع نسبة الأمراض المستعصية والخطرة حتى بين الأطفال، وفي ظل ما تواجه الصحة من أمراض وأوبئة عابرة للحدود، وتلكم التي تتجدد داخل الحدود.

ورغم تحديدي الضيِّق لمفهوم الحق في الصحة من خلال ما سبق، إلا أنَّ للمفهوم أبعادا شمولية، حددتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان والحق في الصحة، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ودستور منظمة الصحة العالمية، والتي تعرفه بأنه حق شامل يغطي مجموعة كبيرة من العناصر التي تساعد الإنسان على عيش حياة صحية، وتدخل التغذية ضمن أهم عناصره، وتمنح الحق في مساءلة الدول من أجل الوفاء بالتزامات حقوق الإنسان في مجال الصحة العامة، وحقهم في إمكانية طلب تعويضات فعالة...إلخ.

وأيَّة مقارنة بين المحددات الدولية للحق في الصحة وبين تطبيقاتها في بلادنا، سيتضح له منذ الوهلة الأولى مدى تحقيق متطلبات هذا الحق في بلادنا، خاصة إذا ما اعتبرنا الإرشادات التي أعدتها لجنة الأمم المتحدة لشؤون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشأن التزامات الدول بتوفير حقّ الصحة لمواطنيها، اعتبرناها مرجعية، فسنجد بلادنا في مراكز متقدمة نتيجة جهود كبيرة بذلت، وأموال ضخمة أنفقت، لكننا نخشى على بعض هذه المكتسبات من سياسة الحد من الإنفاق عِوَضًا عن المزيد من الإنفاق وفق ما ذكرته سابقاً. ونتيجة لذلك؛ نسمع من الكثير من المرضى عن نقص بعض الأدوية، واضطرار بعض المرضى لشرائها من الصيدليات الخاصة (ظفار نموذجا)، وفق حالات اطلعتُ عليها شخصيًّا. لذلك؛ لابد أن توجه السياسة المالية بصورة عاجلة، لأنه من بين أكبر التحديات التي ستواجه بلادنا تأتي قضية الصحة العامة في مقدمتها.