د. صالح الفهدي
أهمية الأخلاق
ما الذي سأكسبه من التمسُّك بالأخلاق؟ ألا تقيِّدُ الأخلاقُ حرِّيتي؟ أليس الخلوق رجعياً، وغير متَّسقٍ مع روح العصر؟ هذه الأسئلة تُراودُ بعض الناس الذين يرون أن التمرُّد على الأخلاق هو في حقيقته انتصارٌ لحرية الإنسان، وأن التمسُّك بها إنما هو انصياعٌ لسلطة المجتمع..!
هُنا يعودُ النظر للأخلاق إلى ضمير الفرد كيف يراها، وكيف يفهم الحرية، لأن الأخلاق هي ضمانُ الحرية حتى لا تتحوَّل إلى عبودية، وهذا ما يحتاج إلى فهمهِ الإنسان المتزن، المتعقِّل الذي لا ينجرف وراءَ النزوات العاطفية، ولا تجرُّه الأهواء، ولا ينبهرُ بالبهرجات التي لا تنتهي إلا إلى خسرانٍ مذلٍّ، وخزيانٍ مخل..!
ولنا أن نتدبَّر أهمية الأخلاق في الإسلام حينما نقارن إحصائيات عدد آيات العبادة مقابل عدد آيات الأخلاق، فعدد آيات (العبادات) التي وردت بالقرآن الكريم (130) آية فقط، في حين تصلُ عدد آيات (الأخلاق) إلى (1504) آيات؛ أي أن الأخلاق تساوي ما يقارب (12) ضعفاً عدد آيات العبادات، مما يدلُّ على القيمة العظيمة التي أولاها الخالقُ عزَّ وجل للأخلاق، ولهذا كان "الدِّينُ الخُلُق"، كما يدلُّ أيضاً على أن الدين إنما هو منهجُ حياة، وتفاصيلُ معيشة، وهذا هو الجزءُ الأعظم من ممارسة العبادة عملياً، أي أن الله قد أراد بدستوره العظيم أن يمنهج الناس بالأخلاق إلى صراطه المستقيم، وأن يعينهم على تحقيق الغايات العليَّة بالأخلاق السنيَّة.
وإذا نظرنا إلى آيات الأخلاق نجدها تضبطُ الانفعالات الإنسانية تجاه الإستقامة والإتزان في التعاملات الإِنسانية الراقية، ففي الحثِّ على إيجابية ردَّة الفعل يقول الحق سبحانه وتعالى:"وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *"(فصِّلت/34)، وفي اجتناب السخرية:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ"(الحجرات/11)، وفي النهي عن التَّكبر:"وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ((الإسراء/37)، وفي اجتناب ظن السوء:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ"(الحجرات/12).
هذه بضعةُ آياتٍ كريمات من آياتٍ كثيرةٍ جداً تحثُّ على التمسُّك بالأخلاق من أجلِ سلامة العيش، وحسن التواصل بين الناس، أما في السنة المباركة على صاحبها أفضل صلاةٍ وأزكى سلام، فالأحاديث لا تعدُّ ولا تحصى، ومنها: "أكمَلُ المُؤمِنِينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا"[رواه ابن حبَّان]، "الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ".[رواه مسلم] "خيرُ الناسَ أنفعُهُمْ لِلناسِ" [رواه الألباني].
تلكم الآيات وهذه الأحاديث إنما هي موجِّهات نحو صالح السلوك، وكريم الخصال، ورقي المعاملة، بيدَ أن المسلم لا يستفيد منها لكونه مسلماً بالإِسم فقط فالإيمان ليس ما وقر في القلب وحسب بل وما صدَّقهُ العمل.
في أهميَّة الأخلاق يذكر المؤلف صالح بن عبد الله بن حميد، في كتابه "نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم" جملة منافع يوردها كما يلي:
- الأخلاق تمنح الفرد إمكانيّة اختيار السلوك الصادر عنه، وتحديد شكله، ممّا يعني الإسهام في تشكيل شخصيّة الفرد، وتحديد أهدافه في الحياة.
- الأخلاق تمنح الفرد الشعور بالأمان؛ إذ بالأخلاق والتّحلّي بها يتمكّن الفرد من مواجهة ضعف نفسه، ومجابهة التّحديات والعقبات التي تواجهه في حياته.
- الأخلاق تساعد الفرد على ضبط شهواته وهواه ومطامع نفسه، حيث تكون تصرّفاته كلّها متّسقة على ضوء ما يتحلّى به من الأخلاق الحُسنة.
- الأخلاق تسمو بالإنسان فوق الماديّات المحسوسة، فيرتفع الإنسان بالأخلاق إلى درجاتٍ رفيعةٍ من الإنسانيّة. الأخلاق الحسنة تُكسِب الفرد جزاءً حسناً في الحياة الآخرة، ويتمثّل هذا الجزاء بالأجر الكريم، وبالثواب الحَسن من رضا الله تعالى، والقبول منه، والفوز بجنّته.
ونخلصُ في الختام إلى جملةِ أُمور:
أولاً: أنَّ الأخلاق ليست من مكمِّلات الشخصية الإنسانية وإنما هي جوهر الشخصية الإنسانية التي تتكامل بها صفاتها، وتتسقُ بها خصالها، وتؤسس بناءها المتكامل.
ثانياً: أن الدِّين هو أعظم مرجعية للأخلاق فهي إلهية المصدر، عالمية الرسالة، إنسانية الأهداف، إن ضُيِّع الدين ضاعت معه الأخلاق، وما يكون لها من إرتباط قوي دونه إلا بالعادةِ أو القانون أو المنفعة، وهذه مرجعياتٌ مؤقَّتة.
ثالثاً: القيم الإنسانية المشتركة هي قيم أخلاقية احتواها الدين الإِسلامي، هدفها أن تجمع الناس على كلمةٍ سواء، وعلى التعاون والتفاهم والتعارف والعمل والعيش الإنساني المشترك، وما يشذُّ عن قيم الدين، أو ما يخرجُ من إطار الفطرة الإنسانية إنما يبتغي الإفساد والانحلال والضياع.