بنت البليد

قصة قصيرة - بقلم/ خالد بن سعد الشنفري

في أحد أيام خريف ظفار من ستينيات القرن المنصرم، تناول سعيد لقيمات الغداء، ثمّ غفا غفوة قصيرة ليستعيد عافيته، فقد كان يومه شاقّ في مزرعته في غوارف الحافة، تهيّأ ليذهب إلى البليد ليمارس هوايته المحببة؛ الاصطياد في خور البليد المحيط بالمنطقة الأثريّة على شكل هلال من البحر إلى البحر.

شدّ على زمل (1) حماره، ووضع عليه الخرج (2)، وطوى الشباك من الطرفين على شكل كتلتين، وأدخل كلّ كتلة في فتحة من فتحتي الخرج فوق ظهر الحمار، وأفترش وسط الشباك بساط على ظهر الحمار ليجلس عليها، وركبه متوجها إلى خور البليد.. إلاّ أنّه توقف على صوت يناديه: "جدّي.. جدّي"، التفت إلى مصدر الصوت، لمح حفيده أحمد يجري ناحيته، فقال: "ما بك يا أحمد؟ لا يمكنك أن تأتي معي اليوم إلى الخور لأنّني لن أعود إلاّ في وقت متأخّر من اللّيل، ستتعب، وغدا صباحا لديك درس، ستأتي معي في يوم آخر أرجع فيه من الصيد مبكّرا".

قال أحمد: "جدّي، لقد أعطتني جدتي خبزة كعكة (4) ثخينة لتحملها معك للعشاء، نعلم أنّك ستتأخر اليوم وإلاّ أخذتني معك؛ لأنّه دوري لأصحبك، فقد أخذ كلّ من حفيظ ومحمد وعلي دورهم في المرات الأخيرة التي ذهبتَ فيها لرمي الشباك في الخور".

نزل الجدّ من فوق حماره باسما ثمّ فتح ذراعيه لحفيده واحتضنه قائلا: "اذهب إلى أمّك وأخبرها أنّك سترافقني، أعرف مدى حبّك الذهاب ومساعدتي؛ فأنت تستمتع بذلك أكثر من إخوتك وأبناء عمّك، ولن أفوت دورك هذا اليوم، أريدك أن ترث هذه الهواية بعدي، إنّها متعة لا تضاهيها متعة أخرى، كما يمكنك عن طريقها توفير سمك الخور الشهيّ اللذيذ للبيت والأقارب والجيران فيدعون لك، إضافة إلى أنّك ستستفيد من بيعه أحيانا إذا كانت كميّة صيدك وفيرة؛ فصلالة يا بني تحيط بها الخِيران الكبيرة، وفيها الصيد الوفير.. سأحرص أن نعود اليوم سريعا من أجلك، لن نتأخّر عن صلاة المغرب أيّها الصيّاد الصغير بعد أن أطمئنّ على إنزال الشّباك في الماء وترتيبه، وسأعود مرّة أخرى قبل الفجر لضك الشباك، فسمك الخور يا ولدي يختلف عن سمك البحر الشديد الملوحة، فملوحته خفيفة جدّا يمكن للعطشان شربه، ومياهه راكدة لا يمكن للأسماك بعد موتها أن تبقى طازجة لفترة طويلة، لذا سأعود آخر اللّيل إلى الخور قبل الفجر لإخراج ما علق بالشّباك من المياه قبل أن تفسد".

انطلق أحمد فرحا ليخبر أمّه، وعاد مسرعا إلى جدّه الذي أركبه خلفه على الحمار وانطلقا.

كان الجوّ خريفيًّا، والسّماء حبلى ملبدة بالسحب والغيوم الكثيفة؛ كانت تشكّل قبّة على كامل صلالة، تحجب عنها الشّمس كلّ سنة على مدى ثلاثة أشهر تقريبا، وكان الرذاذ الخفيف ينعش وجوههم في رحلتهم؛ التي تبدأ من وسط الحافة، مرورا بمسجد صاحب السدرة، ثم مسجد المحضار آخر المنطقة السكنية للحافة، ثم الولوج إلي تحت بساتين النارجيل شرقا بمحاذات البحر إلى أن يصلوا خلال ساعه تقريبا إلي فتك4 الخور، الملاصق للشاطئ من الشرق، بعد أن توسطوا آثار البليد؛ ابتداء من مقبرة البليد القديمة غربا، مرورا بحصن البليد الذي أسّسه الحبوضين مؤسسي وملوك البليد والذى لايزال شامخا في بعض أجزاءه بارتفاع أربعة أدوار، ومسجد جامع البليد الكبير ذو 360 عمود مقصوص ومنحوت من الحجر الجيري، وبقايا سور البليد وابراجه الدفاعيه المنتشرة على طول السور ناحية البحر، والذي لازالت قائمه وبوابات السور الأربعة: باب ظفار جهة الشمال، وباب البحر جهة الجنوب، وباب حرقة جهة الشرق، وباب الحرجاء (5) الى الغرل، فقد ذكر الرحالة والمؤرخون الذين عاصروا هذه المدينة وزاروها أنّه لم يكن لها مثيل في عصرها بالمناطق المحيطة بها من حيث روعة العمارة والبناء، وأطلالها اليوم التي يغلفها سكون الماضي الغابر والتاريخ المهيب يجبر من يزورها على تعظيم وإجلال من بناها لعظمة ما تفصح به.

أوقف الجدّ الحمار على ضفة الخور، وأنزل الخرج من على ظهره، وأخرج منه الشباك، وتركه طليقا ليرعى من عشب ضفاف الخور الطرية الخضراء الرطبة بفعل تجمّع حبات الرذاذ فوقها، وبعد أن افترش خرج الحمار على العشب لجلس عليه أحمد، ليتمكن من رؤيته ومراقبته وهو ينزل إلى الماء.

نزل الجد الخمسيني إلى الماء بشباكه، الذي ربط طرفه في قصب الريز (6) على ضفة النهر، وسبح بتمهل في اتجاه الضفة المقابلة، وهو يضغط برجليه بالتناوب على الجزء السفلي من الشباك ليتأكد من تدليه بالكامل الى الاسفل، إلى أن وصل إلى وجهته في الضفه النقابله التي تبعد حوالي 50 مترا، وهي مسافة تتسع في منتصف الخور لتصل إلى الضعف في بعض الأجزاء، كما يزيد عمقه عن عشرين قدما.

كان أحمد معجبا بجدّه؛ بسلاسته ومرونته في السباحة وهو ينزل الشباك في الماء دون أي جلبة تذكر، حيث لا يرى منه ألا صلعته تتحرك فوق سطح الماء، وتذكر تلك الحركة التي كان يقوم بها عادة والتي كانت تصيبه بالرعب أحيانا، وتضطره إلى رفع صوته بالصراخ: "جدي، جدي، هل تسمعني؟ هل أنت حيّ؟" لأنّه كان يحسبه قد غرق أو علق بالشباك تحت الماء؛ حيث لا صوت ولا فقاعات تطفو على سطح الماء أثناء الغوص لفترات طويلة تتجاوز دقيقة واكثر احيانا، ويفرح كثيرا عندما يطلّ الجدّ مجدّدا، فيتماسك دون أن يظهر خوفه من طوال غيابه.

ولمّا انتهى سعيد من ربط الشباك، صرخ أحمد: "جدي، جدي، أرى حركة في الشّبك، لقد علق به بعض السّمك"، فأشار الجد بإصبعه إلى فمه؛ لا تصدر أي جلبة فانى ارى ذلك. وخرج من الماء ليصلي المغرب قبل أن يفوته وقته، ثم عاد إلى الماء مرة أخرى، ليمرّ على الشباك بنفس الطريقة والسلاسة والهدوء والتأني التي دخل بها أوّل مرة، وقد ربط حول وسطه خيط سنارة الصيد ليعلق عليها الاسماك، خرج سعيد من الخور وسط الظلمة والصمت المخيف لحفيده.. فصاح الصبيّ فرحا وهو يرى الأسماك تلمع في حزام جدّه الأشبه بحزام رصاص فضيّ، وقد ثنيت رؤوسها إلى الخلف كي تموت، ولا تحدث جلبة وسط الماء فتحول دون اقتراب الأخريات من الشباك؛ فهي ذات حساسية مفرطة من الحركة.

لاحظ أحمد أنّ الأسماك من نوعي الخور المعروفة؛ "الفقذيل والبيهار"، وهي متوسطة الحجم، فهتف: "مرحى مرحى يا جدّي إنّك صيّاد ماهر، سنتعشى اليوم بهذه الأسماك الشهية، أتمنى أن تسمح لي بالنزول إلى الماء في المرة القادمة". ابتسم الجدّ مسرورا بحصيلته من السمك بهذه السرعة، وتنامي حب أحمد للصيد في الخور، فأجابه: "لا تتعجل ستنزل إلى الماء، بل ستصطاد بنفسك عما قريب -إن شاء الله-، وسآخذ دورك في المشاهدة والاستمتاع كما تفعل أنت حاليا، فلقد كبرت يا ولدي، وأصبحت يافعا، وحان وقت دخولك للخور، كما أنّي لم أعد بنفس نشاط الشباب،

"فيا ليت الشباب يعود يوما.. فأخبره بما صنع المشيب"

ستتولى العملية كلّها، وبهذا لن ينقطع سمك الخور عن بيتنا... ههه.."

سرّ الشاب بهذا الخبر، وتضاعف حماسه: "المرة المقبلة لن نكتفي بالشباك، سنصطاد بالسنارة وسط الخور فوق الرمشة؛ فالمنظر من هناك خلاب، سنأتي باكرا كي نجهز الرمشة، وسنحضر معنا حفيظ ومحمد وعلي ليساعدونا في قطع الريز، وربطها على شكل حزم متساوية، ثم جمعها ببعضها لتصبح رمشه متماسكة، تطفوا على الماء كبساط الريح، ونجلس كلّنا عليها ونصطاد بالسنارة، إنها المتعة الحقّ؛ منظر قصب الريز، وحفيف أغصانها، ومشاهدة دجاج الخور البري الجميل اللّون يتنقل بينها برشاقة تجعلك تتذكّر الرجزة الظفارية الشهيرة:

"نحن نوبان با نلعب الطمبره ... دجاج الخور رجعناها الى وراء".

قهقه الجد.. فقد انتشى من كلام حفيده، واطمأنّ على خليفته. أكمل احمد: "نعدك أنّنا سنكون في منتهى الهدوء، لن نحدث أي جلبة تزعج أسماك الخور ودجاجة".

ابتسم الجد، وقال: "أبشر يا حفيدي الغالي، الأسبوع القادم -بإذن الله-.. فكرتك جيّدة، وسأجهز الرمشه جيدا كي تبقى متماسكة في الماء لأطول فتره قبل أن تهتري، فسنحتاجها لاحقا؛ فالخريف أنسب وقت لصنعها، وستكونون خير عون أيّها البواسل". ثمّ استطرد: " اجلب الحمار، سنغادر الآن حتى تتمكن النّساء من الطبخ، ونستمتع بأكله، وغدا -بإذن الله- سيكون غداءنا من سمك البيهار كبير الحجم وشحوم بطنها اللّذيذة.. امممم.. إنها لا تقاوم".

ركبا الحمار عائدين إلى البيت.. فتذكر أحمد أن يسأل جدّه عن سر بقاءه تحت الماء دون تنفس مدّة طويلة، وعن سر كثرة ما يعلق بالشباك من الأسماك في الفترة المسائية.

فأجابه دون تردّد: طول بقائي تحت الماء بصورة تلفت نظر من يلاحظها أوّل مرة له قصّة قصه سأرويها لك؛ كنت في البداية لا استطيع ذلك، حالي حال معظم الناس، إلاّ أنّني في إحدى المرات وجدت كميات كبيرة من الأسماك عالقة في الشبك، كان من سمك البيهار كبير الحجم؛ قد يصل وزنها الى 10 كيلو، ونتيجة قوة حركتها في المياه للإفلات من الشباك سحبته وكومته، فالتف حولها، فاضطررت للغوص إلى العمق لعدة مرات، أخلّص السّمك وأفك عقد الشباك، كنت أتحامل على نفسي أطول فترة ممكنة، إلى أن نزف الدّم من أنفي بغزاره، ومنذ تلك الحادثة لاحظت أنّني أصبحت أبقى تحت الماء لفترة أطول من المعتاد، دون أن أشعر بضيق التنفس، وهكذا طورت هذه المهارة شيئا فشيئا... على ما يبدو أن عرقا ما قد تمزق في الجهاز التنفسي، فهي حالة استثنائية ونادرة، انتبه من محاولة تجربتها، فما كلّ مرة تسلم الجرة.

أما الصيد الوفير مساء فيعود إلى أنّ أسماك الخور تتجمع بالفتك وبالقرب منه نهارا، وتعود إلى الأعماق مساء، فتعلق بالشباك الذي يكون قد نُصب.. وإذا أمعنت النظر في المرات القادمة ستتأكّد من أن معظمها تعلق في هذه الوقت من الجهة المقابلة للفتك، أمّا ليلا فتكون من الجهة الأخرى حيث المياه أعمق". فأومأ الشاب برأسه، وقال: "فهمت.. شكرا لك، معلومات ستفيدني كثيرا".

لم ينم الجد إلا سويعات؛ فقد كان حريصا على عدم التأخّر، كي لا تفسد حصيلته من السمك. اتّجه إلى الخور في منتصف الليل، أخرج كل ما علق بالشباك من السمك، كانت كمية وفيرة، ثمّ قرّر انتظار الشروق ليخرج السمك والشباك من الماء، فخرج للشاطئ ليغفوا قليلا؛ فقد كان مرهقا، وهناك يقلّ البعوض عمّ هو عليه قرب ضفاف الخور، بسبب كثافة الشجيرات والأعشاب.. تفاجأ سعيد وهو يهم بالتوجه بمغادرة الماء بطيف امرأة يتقدّم نحوه من وسط أطلال البليد، حاول التحقّق من هويتها، وقد بدأ يتوجّس منها.. كانت تتهادى في مشيتها وتترنّح، فقد كانت الكتل رملية وتجمعات الشجيرات تعيق مشيتها.. نادى: "من هناك.." فلم تجب، كرر النداء بصوت مسموع، ولا إجابة، اقتربت أكثر، وكأنها تقصده.. حاول التحقق من هيئتها وملامح وجهها.. سبقتها رائحة البخور المتصاعدة مع هفهفت ثيابها، بخور ظفاريّ تعشقه النساء؛ مكون عادة من خلطات من عدة أنواع من العطور العربية النافذة الرائحة: عطر جنة الفردوس، جنة النعيم، روح الروح، مخلوط بالمعسلة والخلنجين، العود الفواح موضة تلك الأيام، هدأت الرائحة من روعه، وأعادت أنفاسه إلى هدوئها... بانت أمامه أخيرا.. هاله ما رآه؛ كانت حوريّة من حور الجنّة، فاختلطت مشاعره بين التوجّس والانبهار.. كانت ثلاثينيّة، ترتدي ثوبا ظفاريا "أبو ذيل"، من المخمل الأزرق بالسناجيف الملونة وفصوص الفضّة اللّماعة، والليسو الذي تتحجب به أزرق أيضا مخطط بألوان هادئة. فرك عينيه ليتأكد أنه لا يحلم، فلم يعتد وجود نساء في هذا المكان وفي هذا الوقت من اللّيل، وهل هي حقيقة أم مجرّد أوهام وطيف خيال؟ مرّ سعيد بالكثير من المواقف المفزعة، كانت تصادفه الحيوانات، وأحيانا شبح امرأة تلبس السواد من بعيد تقوم بحركات وقفزات بهلوانية وتختفي بسرعة، فلا يعيرها اهتماما لكن لم يظهر له إنسان مكتمل الملامح البشرية كهذا الذي يراه.

حاول التماسك، واستجمع كلّ شجاعته، وناداها للمرة الثالثة بصوت حازم مرتفع: من أنت؟ وما الذي أتى بك الى هنا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ وماذا تريدين؟". واصلت التقدم.. نهرها بحدّة: "توقفي مكانك". توقفت، ثمّ صدر عنها صوت رخيم شجيّ:

- "السلام عليك يا سعيد".

- "وتعرفين اسمي بعد؟"، ردّ وهو يضرب كفيه ببعضهما متعجبا

- نعم، أعرف اسمك جيّدا، فقد سمعت مرارا مناداة من يأتي معك أحيانا من أصدقائك ومن أولادك سابقا وأحفادك لاحقا.

- لا تجننيني يا امرأة، لقد تحملتك كثيرا كاد صبري أن ينفذ.. من غير المعقول أن تكون امرأة سوية في هذا المكان وهذا الوقت، هل أنت مجنونة؟ هل هربت من أحد البيوت المجاورة؟ أم أنت جنيّة البليد التي تظهر ليلا بالقرب من أطلال البليد لتخيف الناس وترعبهم؟ لكن حسب وصفهم للجنيّة ساق حمار، ولا أرى ذلك فيك فانت تمتلكين أجمل ساقين ممتلئتين إلى القدم لم أر مثلهما في حياتي.

- اطمئن يا سعيد وهدئ من روعك، لست جنيّة ولا مجنونة.

-  قاطعها سعيد: إذا من تكونين؟!

ابتسمت ابتسامة كلها طمأنينة وهدوء ووقار، فبانت أسنانها المرصوصة كاللؤلؤ، ولمعت عيناها الواسعة، فتاه سعيد في جمالها، ولم يعد يعلم ما الأكثر إبهارا فيها؛ عيناها وبياض مقلتيها الناصعتين أم كحلهما الأسود، أو جسدها البديع، كان الليسو الأزرق لا يغطي الجزء العلوي من صدرها، فبرز متوهجا مشرقا كأنّه عُجن من البرونز أو رُصّع من عاج حليبي اللون، أو جيدها الطويل رغم أنّها ليست بالطويلة ولا بالقصيرة، وكأنّ الشاعر عندما قال: "لا يشتكي منها طولا ولا قصر" كان يصفها، أو جسدها الريان.. تتوسط صدرها مرية ذهبية مرصعة بحجر لامع يُزيغ البصر.. وقد زادها كل ذلك جمالا على جمالها وبهاء على بهائها يخرجها من نساء الأرض ويُلحقها بحور العين.. حتى الحبوس الفضي الذي ترصع أسفل ساقيها الممتلئتين كانت رنّاته تعزف سمفونية غزل بالتناوب تمازجا مع تلك الروائح الزكية المنعشة من البخور والعطور وحفيف أوراق قصب الريز.. قالت:

-  اطمئن يا سعيد، وهدئ من روعك، أعرفك من أكثر من 30 عاما، كنت أودّ ملاقاتك منذ زمن لكنني ترددت كثيرا، يعلم الله أنّي لا أريد بك إلا الخير، بل أنا في أمسّ الحاجة إليك، أريد بثّك همي وشجني، أنت الوحيد من يترد على هذه الأنحاء ويحبها، وقد لاحظت مؤخرا تباعد زيارتك، فخشيت ألا أراك ثانية، فقررت أن أظهر لك مهما يكن، فلن أنتظر 30 سنة أخرى حتى أتعرف على محب آخر للبليد وأتعود عليه، إذا وجدته أصلا!! لأبثّه شجني وهمي.

- ومن أنت؟ (ردّ باستغراب) وما علاقتك بهذه المنطقة المقفرة؟ هل أتيت من منطقة قريبة؛ من القرض أو الدهاريز أو الحافه مثلا؟ إذا لم تخبريني وتعرفيني بنفسك سأتعامل معك بأسلوب لن يُعجبك، فانت ولا شك عندي في ذلك من الإنس، حتى الجن الأزرق لا يظهر في هذا الوقت ومثل هذا المكان، انه من حظك السيئ أنّي لا أؤمن بظهور الجن في هيئة بشر، فهم من نار ونحن من طين ولا نلتقي، هكذا علمنا ديننا، اعلمي أنّك لن تخفيني، ولا أخشى إلاّ الله، وإلاّ لما وجدتني هنا وفي هذا المكان وهذا الوقت المتأخر من الليل.

تقدمت الفتاه نحوه خطوة أخرى، نهرها بحدّة قائلا:

- توقفي يا امرأة حيث أنت، يبدو أنّك فعلا مجنونة! توقفي وإلا لن يعجبك تصرفي، انظري إلى ذلك الحمار في خرجه بندقية بها خمس طلقات مذخرة، وقد أعذر من أنذر.

- استهدي بالله. أتفهم ردّة فعلك هذه لكنّني، مع هذا، أعلم أنّك رجل شجاع وشهم، ولن تمد يدك على امرأة ضعيفة تحتاجك، ولو كانت مجنونة، وكما سبق وقلت لك أعرفك جيّدا، وإن لم تكن تراني من قبل، لن أقترب منك أكثر، أعلم أنّك تصطحب بندقية ليلا وبإمكانك أن تستلها من خرج الحمار الان، لكن لا تكسر بخاطري، وحقّق لي حلمي الوحيد بالحديث معك، ولن تراني مرة أخرى..أعدك بذلك، لقد رأيتك مرار وتكرارا تحدق في هذه الأطلال، وتتوقف كثيرا أمام الحصن والجامع والمساجد وغيرها وكأنك تريد استنطاقها فتخبرك عن حالها فيما مضى وكيف كان حال أهلها وحياتهم، قد سمعت الخزعبلات والأساطير فلم يتقبله عقلك الوقاد، توالت روايته جيل بعد جيل، وتدرك ما يحدثه الرواة من تغيير وتبديل حسب أهوائهم وأهواء المستمعين، ومنها على سبيل المثال: أنّ أهل البليد كانوا في غناء فاحش، ولكنهم لم يشكروا النعمة، وبطروا بها، وبغوا، وأسرفوا، فحق عليهم سخط الله وعذابه، فعاقبهم بأن خسف بهم بلدتهم وبليدهم، وقلب أعاليها سافلها، وأنهم كانوا...

قاطعها سعيد:

- وماذا تريدين إخباري عن البليد وأهلها لا أعرفه، على افتراض أنك من أهله، وهذا لا يقبله عقل ولا منطق.

- شكرا لك على السؤال، وهذا يعني أنّك بدأت تطمئن إليّ، أؤكد لك أنّي من أهل هذه المنطقة، وبنت البليد تحديدا، قد لا تصدق أو تستوعب ذلك لكنها الحقيقة، فأنا أقف أمامك اليوم بكامل هيئتي التي كنت عليها قبل مئات السنين، فقد توفاني الله حينها وأنا بهذه السن، لست غريبة عنك، كلنا أبناء هذه المنطقة، ولا نختلف عن بعض إلا في المراحل الزمنية التي عشناها، أتمنى أن أجيبك على بعض ما كان يدور ببالك عنا، وما كنت تحاول استنطاقه من آثارنا، وأتمنى منك أن تخبر عنّا أهلك وأولادك وأحفادك ومجتمعك كلّه؛ كانت ظفار في عصرنا في أزهى عهودها، كنا نعتمد على الزراعة فاستصلحنا الأراضي من طاقة شرقا إلى عوقد غربا، وشققنا القنوات من عيون جبالها؛ عين طبرق وأثوم وحمران ورزات وصحنوت وغيرها، وحفرنا هذه القناة العظيمة؛ قناة البليد التي أصبحت اليوم مجرد خور البليد للصيادين، وشققنا إليها عين جرزيز الجرارة على شكل نهر صغير لا ينضب ولا ينقطع عنها، فتوسعت زراعتنا، واكتفينا غذائيّا، بل كنا نصدّر عسل النارجيل بكميات ضخمة، فنشطت عليه صناعه وتجارة. رصفنا ضفاف هذه القناة التي نقف عليه الآن، وعمّقناها، وأقمنا على جوانبها أرصفة للسفن من الحجر الجيري الضخم الذي يوازي في حجمه حجارة الأهرام، وربطناها بالبحر من منفذين: أحدهما ا نقف عليه الآن لدخول السفن إلى هذه القناة، والثاني من الجهة الغربية تخرج منه السفن إلى البحر، فأصبحت السفن التجارية تجوبه من كل حدب وصوب، وتصطف فيه كالجواري المنشآت. كنا نصدّر الخيول التي كانت ترعى طليقة في جبال ظفار الخضراء بما لا يقل عن 500 خيل سنويا، ونصدر جلود الأبقار التي نطعمها العيد (7) ونصدر سمنها البلدي، ونصدّر القطن الطويل التيلة الشهير، والفلفل الأحمر، إضافة إلى اللّبان، بطبيعة الحال، ذهب ظفار الأبيض على مر العصور. كانت ظفار تشهد طفرة زراعية وتجارية وبحربة؛ كنّا نستقبل ربابنة السّفن التجارية في زفة محمولين على الأكتاف الى حصن البليد لمقابلة الوالي، ونكرمهم غاية الكرم كضيوف. كنا مسلمين مؤمنين موحدين، فمع كثرة مساجدنا كما تلاحظ من أطلالها كانت توجد سجاجيد الصلاة ونسخ القران الشريف في كل بيت، وكان يضرب المثل بنظافتنا الجسدية، فقد كنا نغتسل مرات في اليوم، وقد وثق كلّ ذلك عنا الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي زارنا لمرتين، يفصل بينهما عشرون عاما، وتزود في رحلة عودته البحرية الى الهند التي استغرقت شهرا كاملا بخبز كعك القالب بالسمن العربي والبيض الذي يعمر لأشهر. كنا في منتهى البساطة ملبسا ومأكلا، كان الرّجل منا يكتفي بقطعتين من القماش القطني الأبيض تيمنا بلباس إحرام الحجيج؛ واحدة يتأزر بها والأخرى يلتحف بها، رغم أنّنا كنا في سعة ماديّة، كنا نصدّر الكثير ونستورد كذلك، كنا كرماء فزارنا الرحالة والمؤرخون والتّجار، وانبهروا ببلدنا، وكتبوا عنه وعرّفوا بنا؛ مثل ماركو بولو وابن بطوطة وغيرهما، كانت بلادنا تعج بالعلماء والفقهاء، فمنهم الفقيه الأديب سعد بن سعيد المنجوي، والقاضي محمد بن عبد القدوس الأزدي، والفقيه عبد المؤمن الأصبحي، والفقيه محمد بن عبد المولى الأصبحي، ومحمد بن علي بن الحب وغيرهم. برزت في عصرنا الرُبُط الدينيّة وانتشرت؛ منها رباط محمد بن أبي بكر، ورباط الشيخ القويري (باقوير)، ورباط الشيخ محمد باطحن، وغيرهم. كنا أصحاب دور وقصور وحور. الفضل لنا فيما تتمتعون به اليوم؛ خبزكم الظفاري المميز الذي يندر أن تجد شبيها له في العالم بنوعيه: الخبز الثخين (كعك) والخبز الرقيق (القالب)، والأكلات الشعبية والأدوات المختلفة نحن من اكتشفها وطوّرها. امتدّ حكمنا إلى سيئون باليمن وإلى أجزاء من حضرموت ولازال إلى اليوم فيها أوقاف الحبوظين من مساجد ومدارس قران وغيرها.

ماذا فعلتم يا سعيد طوال الأربعمائة أو الثلاثمائة سنة الأخيرة، كان بإمكانكم إعادة إحياء مدينة البليد أو ترميمها، ولم تكونوا بحاجة إلى بذل جهد كبير؛ فقد أسسناها وما كان عليكم إلا الترميم والمحافظة على هذا الإرث العظيم، والاستفادة منه، وتنشيط زراعتكم وتجارتكم التي تقلصت بنسبة 90%، لا ألومكم اليوم فقد أدرككم مرخرا الثالوث الخطير؛ الفقر والجهل والمرض، الذي حدّ من مسعاكم، وكبّل طموحاتكم. أرجوا أن تعذرني على حدّتي. جئتك أيضا لأزف بشرى حدث جلل ستحظون به وهذا هو الاهم الان، ويكون بوحي وسرّي لك والذي لن يعلمه غيرك، في اقل من عشر سنوات من الآن ستتغير حياتكم رأسا على عقب، وسيعمكم الرّخاء، سيطل نور، ويلوح في آفاق عمان كلها؛ من أقصاها إلى أدناها، إن القدر يهيئ لكم ابنا بارا من أبناء هذه الأرض المباركة ظفار، أرض الأنبياء والأولياء والصالحين، فظفار كانت ولا زالت مشحونة بهم، ستشهد هذا الحدث الجلل في يوم مبارك من أيّام يوليو،1970 تذكر هذا العام وهذا الشهر وترقب هذا اليوم الذي سيحدده القدر، ستحظر هذا اليوم يا سعيد، فلم يتبقى لأوانه الكثير.. كلما أوصيك به أن تبلغ عني، كفى ما نال البليد من إهمال منكم. أحيوه، وستكون لديكم كل الإمكانات لفعل ذلك بيسر، اجعلني أطمئن على مدينتي وتاريخي، وأنام بعدها قريرة العين مع بقية أهلي وأقراني وسكان البليد، ولتترحموا علينا بدلا ان تتداولو عنا ماليس فينا...فجأة نهق الحمار، فاستيقظ سعيد من نومه مذعورا، فرك عينيه، وفتحهما يبحث عن بنت البليد، فلم يبصر غير ضوء النهار، فنهض مسرعا إلى الخور يخرج مابه من اسماك الفقذيل والبيهار متناسيا الحلم وبنت البليد.!!

----------------

1- سرج الحمار.

2- خرج الحمار.

3- خبز تنور ثخين.

4- الجزء المفتوح من نهاية الخور باتحاه البحر.

5- موقع الحافة حاليا وقد ذكرها ابن بطوطه في تحفة النظار؛ ولهم سوق بربض يدعى الحرجاء. احتمال كبير أن تكون أول تجمع بشري بعد انهيار البليد.

6- قصب على ضفتي البليد بسمك الخيزران وطول قصب السكر.

7- سمك الساردين المجفف.