كن إيجابيًا.. كن مزهرًا

د. سليمان بن خليفة المعمري

يُروى أن شقيق البلخي (أحد علماء المسلمين) كان جالسًا مع شيخه إبراهيم بن آدهم في إحدى حلقات العلم، فاستأذن شيخه أن يذهب للتجارة والسعي في طلب الرزق فأذن له، وبينما هو في الصحراء إذ شاهد طائرًا أعمى كسير الجناح، فوقف متأملا وحدث نفسه قائلا: "من يسقي ويطعم هذا الطائر في هذه الصحراء القاحلة؟".

وبينما هو كذلك إذ جاء طائر آخر فأطعم الطائر الأعمى وسقاه، وهنا قرر البلخي العودة إلى بلاده والتخلي عن الذهاب للتجارة؛ فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يرزقه كما رزق هذا الطائر وأنه لا داعي للمشقة والعناء وهو في هذه السن، وعندما رجع التقى بشيخه إبراهيم بن أدهم فأخبره بما رأى وقص عليه قصته، وهنا قال له شيخه: "سبحان الله يا شقيق كيف رضيت لنفسك أن تكون مكان الطائر الكسيح على أن تكون الطائر الذي يكد ويسعى فيستفيد ويفيد الآخرين، وهنا تنبه هذا الطالب النجيب لمقصد أستاذه وشحذ همته لنيل مطلبه وتحقيق هدفه".

إن مثل هذا الموقف يحدث عند الكثيرين حين يقعدون عن السعي الجاد نحو تحقيق أهدافهم وطموحاتهم، وينظرون للحياة بنوع من السلبية والاتكالية، على أن الأجدر بهم أن يتسلحوا بالإيجابية والنظرة بتفاؤل ورضا نحو الحياة ويعملون بكل جد وإخلاص حتى آخر لحظة من أعمارهم واضعين نصب أعينهم التوجيه النبوي الكريم: " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

على أن ولوج الإنسان في المشاعر السلبية ودوامات اليأس والشعور بالعجز من شأنه أن يصيبه بالأمراض العضوية والنفسية والعصبية ويعيق استتبابه النفسي وسكونه وسعادته واطمئنانه، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المصابين بالاكتئاب في العالم يتجاوز الثلاثمائة مليون شخص، وأن مراجعي العيادات والمصحات النفسية في ازدياد مطرد، وإن مما يزيد مساحة السلبية والتشاؤم لدى الكثير من الناس هو متابعتهم النهمة لأحداث وأخبار العالم السيئة واندفاعهم وهوسهم بالمقارنات لما يشاهدونه على وسائل التواصل الاجتماعي وتطلعهم المحموم نحو الشهرة والثراء،  بالإضافة إلى التوقعات السلبية للحياة والمستقبل وتهويل المآسي واحتمالات وقوع النكبات والكوارث، وطغيان نغمة الشكوى والتذمر والتسخط، ولعل أجمل وصف لهؤلاء السلبيين تلك الأبيات الشعرية الجميلة التي نظمها أحد كبار شعراء المهجر إيليا أبو ماضي:

أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ // كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَليلا

إِنَّ شَرَّ الجُناةِ في الأَرضِ نَفسٌ // تَتَوَقّى قَبلَ الرَحيلِ الرَحيلا

لذا كان لزامًا على الإنسان حتى يعيش سعيدا ويحيا منعما أن يكون نصيبه من الشعور بالإيجابية وطيب الحياة هو الأوفر وذلك عبر السعي الحثيث نحو كل ما يعزز الإيجابية لديه، وإن موجبات السعادة والابتهاج لن تتحقق إلا لمن يبحثون عنها وينتبهون إليها ويترقبون مجيئها ويقتنصون كل فرصة للفوز بها، ولنا في سير العظماء وقصص أمجادهم التليدة ما يلهمنا للسير على خطاهم، فها هو النابغة الذبياني يقول الشعر وهو في سن الستين، ويتعلم مؤسس مصر الحديثة محمد علي العربية وهو في سن الخامسة والأربعين، ويقدم لنا بتهوفن الأصم سيمفونياته الرائعة، وتبهرنا هيلين كيلر بإنجازاتها وهي عمياء، ويترك لنا الكاتب الإنجليزي ويلز أكثر من سبعين كتابا وهو فقير معدم، وتفاجيء الشهرة الفيلسوف الألماني شوبنهاور وهو في السبعين من العمر، والقائمة تطول بأمثالهم من الجهابذة والمبدعين.

وقد أشارت الكثير من الدراسات إلى فوائد التوجه الإيجابي للإنسان ففي قصة مثيرة حدثت إبان الحرب العالمية الثانية حينما وقع أعدا كبيرة من الجرحى في صفوف قوات التحالف في قتالها مع قوات هتلر النازية؛ حيث وقفت الفرق الطبية عاجزة بسبب النقص الحاد في أدوية التخدير اللازمة لإجراء العمليات الجراحية، وهنا قرر الطبيب الأمريكي هنري بيشر القيام بتجربة؛ إذ أخبر الجرحى بأنهم سيتلقون مخدرًا من نوع المورفين، غير أن السائل الذي تم إعطائهم إياه لم يكن سوى ماءً مالحًا وكان خاليًا من أية مادة مخدرة، والغريب أن رد فعل الجرحى كما لو كان قد تلقوا جرعة من المورفين بالفعل إذ لم يصدر عنهم أي صراخ أو شعور بالألم أثناء العمليات الجراحية، وقد ورد في الهدي النبوي الشريف ما يؤيد مثل هذه النتائج ما رواه أبو هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي....."، ومن هنا نرى أهمية المشاعر الإيجابية لدى الشخص وأنها تسهم في تحسن وضعه النفسي والصحي والمزاجي.

وختامًا.. لأجل حياة أكثر إشراقا وازدهارا، ومن أجل صحة نفسية وجسمية سليمة على الإنسان أن يتبنى الإيجابية سلوكا وعادة واتجاها في حياته وسلوكه، و"ليبتهج، متذكرا أن المصائب التي لن يتمكن من تحملها لن تحدث أبدًا".

مهتم بقضايا الإرشاد الوظيفي

تعليق عبر الفيس بوك