علي الرئيسي **
يعود الاقتصادي الفرنسي المعروف توماس بكيتي (Thomas Piketty) المعروف بكتاباته حول اللامساواة في العالم، وخاصة كتابه الأكثر شهرة "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"؛ حيث أوضح فيه أن العائد على رأس المال يفوق معدل النمو الاقتصادي، وهذا العائد كان السبب الرئيس في اتساع الفارق الكبير في الدخل بين الأغنياء والطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ويرى البعض أن كتابه هذا من أهم الكتب التي نجحت في تحليل ديمومة النظام الرأسمالي منذ كتاب "رأس المال" لكارل ماركس، الذي ألفه ماركس قبل 150 عامًا. أما كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" فقد ركز جُلّ تحليله على المجتمعات المتقدمة، وبالذات في أوروبا الغربية وامريكا، لكن كتابه الآخر "رأس المال والأيديولوجيا" فقد وسّع فيه إطار التحليل ليشمل بقية أنحاء العالم.
بينما يقوم في كتابه الأخير "تاريخ مختصر للمساواة"، بتقديم عرض متفائل عن تاريخ تقدم البشرية نحو المساواة، رغم الأزمات، والكوارث، والحروب، والتراجعات، ورغم إن معظم الدراسات تشير إلى أن عدم المساواة في الدخل أصبح أكثر وضوحًا منذ 1980 مع هيمنة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية؛ حيث إن الأغنياء كانوا أكثر المستفيدين من عملية النمو. وهذا أمر لا يُنكره بكيتي، إلّا أنه يقدّم سرديّة متفائلة في هذا الكتاب، ويعلن أنه يعرض قصة البشرية نحو التقدم والمساواة. وهو يفعل ذلك باتخاذ اطار واسع لفترة التحليل من عام 1780 حتى عام 2020، متخذًا من السياسة والرفاهية والاقتصاد إطارًا للتقدم الإنساني.
الاقتصادي الفرنسي توماس بكيتي
ويرى بكيتي أن متوسط عمر الإنسان ازداد من 26 سنة إلى 72 سنة، كما ازداد التعليم الحكومي الإجباري؛ حيث ارتفع معدل معرفة القراءة والكتابة من حوالي 10 بالمائة إلى 85 بالمائة، أما العبودية والاستعمار اللذان كانا في فترة ما سائدين، لكن الآن تقريبًا تم القضاء عليهما. وحوالي نصف سكان الدول المتقدمة هم على الأغلب من الطبقة المتوسطة، رغم أنه قبل القرن العشرين لم تكن هناك هذه الطبقة. إلى جانب أن الحق في التصويت، كان في السابق- حتى في الدول الديمقراطية- محصورًا في الرجال الذين يملكون عقارًا، لكن الآن بات هذا الحق في طريقه ليُصبح شاملًا للجميع.
ويعترف بكيتي بوجود فوارق كبيرة في رفاهية الأشخاص؛ سواء ضمن الدول الصناعية ذاتها أو بين الشمال والجنوب. ولكن قراءته لتاريخ القرن العشرين تمنحه الأمل بأن هذه اللامساواة في القرن الحادي والعشرين من الممكن تقليصها جزئيًا؛ لان النضال من أجل المساواة بكل أشكالها لا يمكن ان يُقاوم، والجزء الاخر أن الأجيال السابقة من الإصلاحين أناروا لنا طريقًا ما زال يرشدنا نحو العدالة.
بكيتي يركز خصوصًا، على الثورة في الحكومات، والتي خاضتها القوى الليبرالية واليسارية في الغرب وذلك في الفترة بين 1910 و1980؛ حيث إنه خلال هذه العقود هيمنت على المجتمعات الغربية دولة الرفاه، واستثمرت بشكل مكثف في التعليم وفي السلع العامة، وقلصت بشكل فعلي اللامساواة الاقتصادية، ومنحت فرصًا متساوية بين الفقراء والأغنياء.
فما الذي أحدث هذا التقدم؟
بكيتى يقدم إجابة مباشرة تتمثل في: ظهور الضرائب التصاعدية على الدخل والثروة، ودولة الرعاية الاجتماعية الشاملة. إذ إن الضرائب خفّضت من اللامساواة ودفعت بدولة الرعاية الاجتماعية، التي وفّرت التعليم، والعناية الصحية، ومعاشات التقاعد والحماية من الحرمان. ويسمي بكيتي هذه الإجراءات بـ"الثورة الأنثربولوجية"، وهي انتصار كبير للعدالة الاجتماعية.
يعتقد بكيتي أن أصحاب الأملاك الخاصة، دائمًا استغلوا نفوذهم الزائد على الحكومات، لتشكيل "أنظمة للعسكرة، والهيمنة الكولونيالية"، ونهب وتدمير البيئة، والذي جعل منهم أكثر غنى مما كانوا عليه. لذلك القول إن عملية النمو ستحل المشاكل الاقتصادية- من وجهة نظره- أمر جنوني. ما سيحدث فقط هو إضعاف ملموس للملكية الخاصة، والتي في السابق أن أدت الى التخلص من الرق، إضافة الى سياسات أخرى يجب اتخاذها ستؤدي الى تقليص فجوة الدخل.
بكيتي يسعى نحو "دمقرطة الاقتصاد"، وهو أكثر اهتمامًا بأصحاب الأملاك من الاهتمام بالدخل؛ حيث يعتقد أن الريعين (أصحاب الريع)، لا يختلفون كثيرًا عن النبلاء الموجودين قبل الثورة الفرنسية، وإنما فقط حوّلوا ثروتهم من الأراضي المملوكة للإقطاع إلى أدوات مالية. ورغم أن بكيتي يفضِّل فرض ضرائب أعلى على الدخل، إلّا أنه يدعو الى إعادة توزيع الثروة التي هي جوهر برنامجه الإصلاحي. هذا طبعًا يشمل دفع تعويضات لأحفاد من تم استرقاقهم واستعمارهم. كما إنه يُشجِّع دول الجنوب على فرض ضرائب على أموال غير المقيمين في هذه البلدان، وإلغاء الديون. ويقترح كذلك اتخاذ خطوات نحو السيطرة على الشركات الكبيرة بعيدًا عن هيمنة المدراء وأصحاب الأسهم، ومنحها للموظفين والعمال مما سيؤدي إلى نظام عام للتمويل مهمته تمويل الحملات السياسية، والإعلام، ومراكز الأبحاث. وذلك سيؤدي- في رأي بكيتي- إلى "تحول عميق في النظام الاقتصادي العالمي".
ويقدم بكيتي في هذا الكتاب برنامجًا طموحًا ومتكاملًا للتحول نحو الاشتراكية التشاركية (Participatory Socialism).
هل اضطراب كهذا من الممكن حصوله؟ بكيتي لا يقدم تنبؤات، ولكن يقول إن النظام الحالي "الرأسمالية المفرطة" (Hyper Capitalism) من الواضح أنها محكوم عليها بالفشل، فباستثناء الاشتراكية، فإن البديل الاخر هو النظام الشمولي، كما هو سائد حاليًا في الصين، أو نظام رجعي كذلك الذي تنظر له "داعش"، وإن قضية أن الجميع سيكون رابحًا هي مسألة "خطيرة ومخدرة وعلينا التخلي عنها حالًا".
لا يعتقد بكيتي، أنه من السهولة تحقيق برنامجه الإصلاحي هذا، ويعترف أن ظروفًا أخرى أدت إلى التحولات الهائلة التي حصلت في القرن العشرين، إضافة إلى نضال الطبقات المستنيرة من ضمنها حربين عالميتين مدمرتين ومقتل ملايين من البشر.
لكن السؤال: هل يحتاج العالم لحرب مدمرة لنصل إلى عالم أكثر حرية وعدالة ومساواة؟!
** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية