حرية التعبير ومسارها تربويًا

 

 

عبد الله العليان

منذ ما يقرب من ربع قرن، بدأتْ كتابات وأبحاث لجيل من الشباب العربي الطموح، مع سعي لطرح قضايا الأمة ومشكلاتها، وكيفية الخروج من أزماتها التي ما زالت تعيشها منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن من التراجع والتخلف، وغياب الأسس الدافعة للتقدم المنشود؛ كالحرية والديمقراطية، والتعددية والإصلاح السياسي وغيرها من القضايا.

ومن هؤلاء الباحثين الذي شقوا طريقهم بثبات في الكتابة الفكرية والسياسية والثقافية، الكاتب والباحث السعودي أ. محمد محفوظ، ومن المؤلفات التي أصدرها خلال العقدين الماضين، منها كتاب "الإسلام.. الغرب وحوار المستقبل"، و"الفكر الإسلامي ورهانات المستقبل"، و"الأمة والدولة.. من القطيعة إلى المصالحة"، و"الحضور والمثاقفة"، و"الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية"، و"الإسلام ورهانات الديمقراطية"، وغيرها من المؤلفات والدراسات، ومن الكتب الحديثة التي صدرت للكاتب محمد محفوظ، كتاب "التربية على الحرية"؛ باعتبار أن التربية الجيدة التي تضع قضية الحرية على أسس موضوعية وإيجابية، والتفريق بين الحرية المنفلتة بين ضوابط، والحرية التي تفتح الآفاق الرائعة لمسألة الحريات العامة، في قضايا التعبير والإبداع، وجعل الحرية طريقًا لقبول الآخر، بعيدًا عن أحادية الرأي والانغلاق عليه، وهو ما يسبب مناح سلبية لهذا الانغلاق والانسداد في جوانب كثيرة.

ويرى الباحث في مقدمة هذا الكتاب، أن الحرية تحتاج إلى تبيئة وتهيئة حتى: "لا تتم اعتباطًا أو صدفة، وإنما هي بحاجة إلى تهيئة وتنشئة وتربية.. كما أن الحرية- كما يضيف أ. محمد محفوظ- كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بالعدالة؛ فلا عدالة حقيقية بلا حرية إنسانية، كما إنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات؛ حيث إن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي".

وفي مناقشته لمفهوم لمعنى الحرية، باعتبارها قيمة عظيمة في الحياة الإنسانية، وتعني بحرية التعبير والنقاش الحر دون معوقات ومثبطات وحواجز، ويرى الباحث أنها من هذه المنطلقات: "نعتبر نزعة إلى الحرية والانعتاق من القيود والأغلال لدى الإنسان، من النزعات الأصيلة والعميقة في وجوده الطويل، وتعتبر حياة الإنسان السوي كلها، بحثًا عن معنى الحرية المتأصل في وجوده وفي كيانه، والمتجذر في مختلف مستويات تجربته الإنسانية،وكل المعطيات الوجدانية والدينية والحضارية، تدفعان إلى الاعتقاد الجازم، بان الحرية كحاجة إنسانية هي من ضرورات حياته ووجوده، ولا تتحقق إنسانيته إلا به".

  • مناقشته لعنوان "الإسلام وجدلية الإيمان والحرية والمسؤولية"، يرى الباحث محمد محفوظ أن هناك تلازمًا بين الحرية والمسؤولية، وهذه قضية بديهية لا مفر منها: "والحرية في الاختيار لا تعني بأي حال من الأحوال، عدم تحمل المسؤولية، والهروب من آثار اختياراته وقناعاته. قال تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك لا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورا)؛ فالإنسان ينبغي أن ينطلق في تحديد اختياراته من موقع التفكير والتأمل العميق، وذلك لأنه المسؤول الوحيد عن اختياراته. فإذا كانت سيئة أدت به إلى المزيد من الخضوع للأهواء والشهوات، وهذا طريق هو طريق جهنم . وإذا كانت حسنة كان فيها نجاته في الدارين، فالحرية لا تعني إطلاق أهواء الإنسان وغرائزه، وجعلها بدون ضوابط أخلاقية وقانونية. فإن الغرائز المنفلتة من كل الضوابط لا تسمى حرية، وإنما تحللًا وافتئاتًا على القانون والمنظومة الأخلاقية الإنسانية".

وفي "مفهوم الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم"، طرح الباحث أهمية حقوق الإنسانية وقضية الحريات المرتبطة به، لكونه تشكل محور القضايا التي تعبر عن حرية الإنسان وضمان حقوقه الأساسية، ولذلك: "فإن امتهان كرامة الإنسان، هو البوابة الواسعة لكل الكوارث الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والسياسية التي تعانيها مجتمعاتنا، وبارزة نتوءاتها وتأثيراتها الكارثية على أكثر من صعيد... فامتهان الكرامة الإنسانية هي بوابة تدمير الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسياسة في حياتنا وفضائنا الحضاري. ولا عودة حضارية لمجتمعاتنا إلا بعودة كرامتنا الإنسانية وصياغة حياتنا الخاصة والعامة على أساس احترام وتقدير كل مقتضيات ومتطلبات الكرامة الإنسانية على المستويين الفردي والمؤسسي".

وعن "أسس الحوار الديني وأسس التفاهم المدني"، ناقش الكاتب محمد محفوظ هذه القضية التي تزداد فيها الإشكالات الفكرية والسياسية، وأهمية إيجاد المخارج الايجابية للتفاهم بين الثقافات والأديان في عصرنا الراهن، بما يحقق الحوار الديني المطلوب، ولكن هذا الحوار لا بُد له من التأسيس الإيجابي للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويقول:"ولا ريب أن حبس الحريات وتقييدها، والتضييق التعسفي على القوى الوطنية والتعبيرات المجتمعية، يساهم بشكل كبير في ضياع الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنجح مشروعات التنمية في ظل غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي. فالاستقرار شرط التنمية، ولا استقرار (بالمعنى الحضاري والدائم) بدون الحرية والديمقراطية. لذلك كله فإن شرط التنمية توفر الحريات العامة، وتوفر الظروف الذاتية والموضوعية لكي تمارس كل قوى الوطن وتعبيراته دورها ووظيفتها في مشروعات البناء والتنمية".

وحول "مفهوم حرية التعبير في المنظور الإسلامي"، باعتباره هذه الحرية قضية القضايا في الحياة الإنسانية المعاصرة، من حيث ضرورياتها وقيمتها الأساسية، يرى الباحث محفوظ أن: "حرية التعبير مفردة من المفردات، التي تؤكدها قيمة الحرية في المنظور الإسلامي. لذلك فنحن ينبغي أن لا نتعامل مع هذه المفردة بطريقة إنشائية أو دعائية، وإنما نتعامل معها باعتبارنا مأمورون بتحقيقها وصيانتها وتجذيرها في واقعنا الخاص والعام، والحريات وفق هذا التصور، ولا يمكن أن نجسدها ونتمثلها إلا وفق سياق حضاري وثقافي قوامه الإسلام وخصوصياته الثقافية والمعرفية والاجتماعية".

لا شك أن أهمية هذا الكتاب تكمن أنه يناقش قضية "التربية على الحرية" وهذه هي الأسس التي يجب وضعها في الحسبان وحاجتنا إليها، كونها تربّ النشء على حرية جديرة بأن تكون رائعة ومقبولة وإيجابية عند تطبيقها في أي مجتمع من المجتمعات.

الأكثر قراءة