"البطران".. سوالف الستينات لخالد الشنفري

 

 

د. شفيق طه النوباني **

 

 

يحث كتاب "البطران: سوالف الستينات" لخالد الشنفري الصادر عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان مؤخرا قارئه على تناول عدد من المسائل التي تفرض نفسها فور البدء بقراءة الكتاب. وأول مسألة تتبادر إلى الذهن فور قراءة عنوان الكتاب، فاختيار المؤلف لمفردة "السوالف" يضع المتلقي أمام إشكالية التجنيس، فهل مثلت نصوص الكتاب مفهوم السوالف بوصفها معمارية تتشكل النصوص من خلالها أم أن هذه النصوص مثلت الجو العام الذي تشكل في مرحلة الستينيات في محافظة ظفار، حيث لم تتعدّ دلالة مفردة "السوالف" تمثيل هذا الجو بعيدا عن مسألة التجنيس؟

تشير كلمة السوالف في دلالتها التداولية إلى تجاذب أطراف الحديث دون إغفال الملمح الحكائي في طبيعة هذه المحادثات، ولا شك أن الشنفري حين اختار أن يجعل السوالف جزءا من العنوان كان يعي دلالتها، فالنصوص التي كتبها تدور أحداثها في ستينيات القرن الماضي، وهي تتناول في مجملها أحداثا تمثل موضوعات تفاعل معها الناس، فغدت حديث سهراتهم ومجالسهم.

غير أن الناظر في نصوص الكتاب سيجد أن بعض ملامح معمارية النصوص ارتبطت بعنصر "السوالف" الذي ورد في العنوان، ففي قصة "الرعاة الصغار" نجد أن النص حريص على نقل طبيعة الأحاديث التي توصل الموضوعات التي كانت متداولة في ستينيات القرن الماضي بين فتيان صلالة، لتشير إلى مستواهم الثقافي والمعرفي، أما "الهروب الصعب" فقد جاءت من خلال قالب حكائي لم يسع الكاتب فيه لأن يتحرى شروط القصة القصيرة، فالحكاية تأتي على لسان الجد الذي يقص على أحفاده حكاية رجل تمكن من الهروب من السجن، غير أن الحكاية تنقطع أكثر من مرة من خلال استفسارات الأطفال، لتخرجها إلى تفسير بعض الأحداث، أو تفسير مثل محلي، ولا شك أن ذلك يحقق للحكاية ملمحا تعليميا يبرز من خلال محاولة الجد إيصال رسائل لأحفاده تتعلق بمفهوم البطولة، وبالتحولات التي جاءت بعد 23 يوليو حيث جاءت المصالحة الوطنية ليبدأ عهد جديد. كما أن طبيعة القص في هذا النص تلتقي مع أشكال القص الشعبي، حيث قامت جلسة الجد مع أحفاده بدور الحكاية الإطار التي كثيرا ما تؤطر الحكايات الشعبية، ولا شك أن هذا الاتصال بالقص الشعبي يلبي دلالات العنوان الذي اختاره الكاتب لكتابه.

لم يسع الشنفري إلى كتابة مجموعة قصصية تنطوي على وحدة أجناسية، فالنصوص التي انطوى عليها الكتاب تتنوع معماريتها، حيث مثل نص "الهاربون والعائدون" قصة قصيرة مكتملة تشير إلى قاص يمتلك أدوات القص، فالراوي متمهّل في السرد لا تجده يلاحق الحدث بقدر ما يصوره ويتتبع تفاصيله المشوقة والمؤثرة في الوقت نفسه، فراوي هذه القصة واثق من أهمية ما يرويه، يدرك الأبعاد المكانية والإنسانية للشخصيات التي يتناولها، وهي سمة يمكن تفسيرها باطلاع الكاتب على نماذج أدبية راقية، أهلته لإبداع هذا الشكل من أشكال السرد، لكنها من ناحية أخرى تشير إلى راو يقترب من المؤلف بصورة أكبر، فهو سرد منساب من نقطة البداية حتى نقطة النهاية دون محاولة لاستخدام التقنيات السردية المتعلقة بترتيب الأحداث. والمتلقي من خلال هذا السرد يمكن أن يتخيل راويا صديقا يتمتع بالحكمة والهدوء خبير بالحياة لديه من التجارب ما يؤهله لأن ينقل معرفته وخبرته.

تتناول قصة "الهاربون والعائدون" حكاية ثلاثة فتيان تمكنوا من الهروب عبر البحر من صلالة التي كان أهلها يعيشون ظروفا سياسية واقتصادية صعبة سادت في ظفار في ستينيات القرن الماضي، إذ تتبّع الراوي مغامرة الفتيان الثلاثة الذين سبحوا مسافة طويلة ليبتعدوا عن أعين المراقبين، حيث توفي أحدهم في بحر العرب، وإذا كان الموت أمرا ممكنا في مثل هذه الحالات فإن ذكاء السرد تمثل في إبراز الملمح الإنساني للشخصيات، حيث أبدت كل شخصية حرصها على حياة الآخر، كما برزت الأدوات البسيطة في هذه المغامرة البحرية بوصفها أدوات للنجاة لم تنجح بصورة كاملة في تحقيق نجاة الجميع. والناظر في هذه القصة سيجد أنها تلتقي مع العديد من القصص العالمية التي تناولت مغامرات الهروب، كما هو الحال في رواية "الكونت دي كونت كريستو" مثلا، غير أن هذه القصة تنطلق من بيئة ظفار وظروفها في تلك المرحلة، ومن أحلام أبنائها ومساعيهم.

وقد مثلت قصة "البطران" نصا قصصيا مكتملا من الناحية الفنية، أما نص "كوريا موريا" فلم يسع فيه الكاتب إلى أن يتجاوز المذكرات، فأراد توثيق زيارته للجزر وتسجيل الملامح الجمالية فيها. وعلى الرغم من تنوع الأجناس الأدبية التي ينطوي عليها كتاب "البطران" سنجد أن فيه جامعا يربط كل نصوصه، إذ يمكن للقارئ أن يلحظ قرب هذه النصوص من البيئة الظفارية وطبيعة المكان.

تتناول قصة البطران حكاية شاب بدأ ببناء منزل في منطقة السعادة في صلالة في حقبة الثمانينيات، إذ لاحظ أن حمارا اقترب منه بألفة تثير الاستغراب، فتذكر حماره (البطران) في الستينيات حين كان طفلا، حيث كان الحمار بالنسبة له ذا مكانة رفيعة اعتمد عليه في كثير من أمور حياته، غير أنه بعد انتشار السيارات تراجعت مكانته، وبدأت أهميته تقل إلى أن اختفى من المكان، وقد قام الحمار بتخليص هذا الشاب من سرقة عاملين في المبنى الذي يشتغل فيه، فتركه في حيرة من أمره، فهل هو جن، أم هو البطران، أم أن الحدث صدفة عجيبة؟

والمتمعن في هذه القصة لن يتوقف عند المفارقة التي تقوم عليها القصة فحسب، بل سيتجه إلى الدلالات العميقة التي يمكننا التوصل إليها من خلال هذه المفارقة، فالمجتمعات سابقا كانت أقرب من الطبيعة التي كنـّـا نندمج فيها ونحافظ عليها وعلى مكوناتها حتى نحيا بصورة أفضل، في حين انتقلنا مع إيغالنا في الحداثة إلى حالة من تجاوز الطبيعة على الرغم من اعتمادنا عليها، بل مارسنا في كثير من الأحيان ما يمكن أن يضر بها ويضر الإنسانية تبعا لذلك. والناظر في قصص المجموعة سيجد أنها تنطوي على هذا الملمح المتعلق بالطبيعة، ففي قصة "الرعاة الصغار" مثلا نجد أن الأطفال خاضوا مغامرة الرعي بالأبقار وحدهم، ليبتعدوا أكثر عن مكان سكنهم، ولتبدو "المحطة" التي تمثل معلما حديثا قبلتهم التي سعوا للوصول إليها.

لم يكن هذا القرب من الطبيعة فعلا مستقلا عن حياة الناس بصورة عامة، بل كان من الطبيعي أن يتزامن مع تعامل الناس فيما بينهم، حيث ظهرت في قصص المجموعة ملامح التكافل الاجتماعي، وتقارب الناس، إذ استطاع مثلا الفتيان العاملان في قصة "الهاربون والعائدون" أن يوفرا أجرة يومهم بعد أن حصلوا على سمك "التكواية" دون ثمن.

ومع أن نصوص هذا الكتاب سعت إلى التسجيل والتوثيق، كما هو الحال في توثيق رقصات الزنوج التي جاءت في قصة "الرعاة الصغار" إلا أن هذا التسجيل لم يكن على حساب أدبية النص، أو أبعاده الإنسانية، خاصة إذا ما استثنينا نص "كوريا موريا"، فقد جاء التسجيل في بقية النصوص منسجما مع السياق، لا يبدو نافرا أو مقصودا لذاته.

** أستاذ الأدب الحديث المساعد في قسم اللّغة العربيّة وآدابها بجامعة ظفار

تعليق عبر الفيس بوك