لنرأب الصدع ونلملم القصور

 

منى المعولية

 

 

ضرب من الترف أو سوق نخاسة عصرية تستباح فيه المبادىء وتستعرض على مزاد التنازلات... هكذا يعتقد البعض وهكذا يظن في من يمسك المناصب، ويعتقد أن المناصب وأصحابها إنما هي إيذان جديد لممارسات فردية واستعلاءات ذاتية، ستأتي لتضرب أكف الواقع بأخماس الرغبات وأسداس التجاوزات، وهي على الأغلب نظرة العامة بلا تؤدة ولاهوادة ولا تركيز ولا تفكير.

تتعالى لغة التنميط وترتفع هوامش التعميم وتتضاءل العقلانية، لتبدأ شيطنة كل مسؤول يرتقي على عرش المسؤولية أو يغادرها، نفتقد للواقعية كثيرا وسبل الترابط ولا نجد إلا التفكيك والانفصال لنحكم على حيثياته أحكامنا، وتنطلق تكهناتنا دون الربط الحقيقي بين المسببات والأسباب. ولا أنكر أنني كنت ذات يوم أحد مُصدِّري هذه العموميات، وأحد من ينتقد دون أن يفقه سبل الأسباب وأحداثها، فما إن يؤدي المسؤول القسم حتى نحمّله ما نطيق وما لا يستطيع من الانتقادات، وليس من أحد فوق النقد، ولكن يكمن الخلل في تصورنا المسبق وفي الصورة الذهنية التي نضعها دون أن نكبد أفكارنا مشقة العناء والبحث والنظر في معرقلات مانتمناه، ونتناسى أن المسؤول لايملك تلك العصا السحرية، ولا يمسك بمصباح علاء الدين ليدلك الغبار ويزيحه عن مارده النائم بين أجزاءه الداخلية، ولايملك المسؤول شفرات فتح مغارة علي بابا، فمن أين سيسكب الحلول الفجائية على كل مشاكلنا، وهذا ما ينطلي نصا وحرفا وترجمة على المسؤول المغادر، فنتسائل بعمق، ما الذي كان بيده وضمن صلاحياته وإمكانياته ولم يقدمه أو ينجزه؟

إننا جزء من كيان مترابط، وجزء من منظومة متكاملة، لاينطبق التغيير على أعلاها، ما لم يكن التغيير نابع من أرضها وجذورها، لذا فإننا حين نشكر من غادر كرسي المسؤولية وهو كرسي شائك، نعلم أننا نظرنا بتجرد إلى أعماله وتضحياته وإلى ما قدمه؛ فقد عمل وفق الموجود وجاد به، وضحى لكي يتفادى النقص، وإن تجانب النقص مع تقصير في طرف آخر من الرداء ليغطي جسد المتطلبات، فهذا طبيعي جدا، من باب أن الرداء القصير أصلا لن يحتوي جميع الأجزاء.

وهذا الحال أيضا ينطبق على المسؤول الجديد فهو يقف على باب يعلم أن منذ لحظة الإمساك على مفاتيحه فهو معمم بالتحديات، ولاشيء يأتي بين عشية وضحاها ولا ليلة ونهارها، فإنما يأتي بالتكامل والاستدامة والتحفيز الأكبر من لدن الأساسيات المؤسسة للكيان والقائمة بالإشراف عليه.

وأستغل كل تلك التوطئة أعلاه لأقول وأصل إلى بيت القصيد المعلق على غياهب المعنى، أننا ما لم نصرف ببذخ على قطاعي الصحة والتعليم ونجعلهما شغلنا الشاغل، فإننا سنظل ندور في ذات الرحى ونطحن قمح الأمنيات لنجني عملا نتاجه "الجود بالموجود".

 

ويقاس تقدم الأمم بتطور أنظمتها الصحية والعلمية، ويرتبط العقل بالعلم كما ترتبط الصحة بالتفكير، وقد نشأنا على مقولة ترعرعنا على كلماتها دون أن نتقن فن معانيها " العقل السليم في الجسم السليم" مما يعني نصا وضبطا أن الفكر والتفكير لن يتأتى إلا بالصحة والمحافظة عليها.

وبالرغم من الجهود الواضحة لتطوير القطاعين المذكورين، إلا أن ديدن الإنسان أن يطمع ويطمح إلى المزيد وهذا الحال ينطبق أيضا على كافة القطاعات الحيوية والخدمية، ولكننا نسلم أننا نبدأ بالبديهيات والتدرجات وفق أساسيات هرم ماسلو، فإن الإنسان لايمكن أن يصل إلى مرحلة الإنتاج والعطاء المطلوب منه إلا بعد أن يغادر مدرج الضروريات والحاجات ليتعداها إلى الرغبات ومن ثم يكون كائنا طبيعيا ينتج مايفيض من حاجاته ويطور المزيد.

وأتطرق أخيرًا إلى فلسفة الشكر والثناء وكذلك فلسفة الترحيب بالمسؤول. يختلف البعض ويتناقض ويشجب ذلك؛ ليغيب عن ذاته إنه هو فرد وأحد مكونات معمعة الحياة، تلك التي لن يفهمها إلا الواعي المدرك والقريب المطلع أن من عمل بجهد واجتهاد وواصل النهار المضيء بسواد الليل وهو يخطط ويرسم ويقرر وينفذ إنما تجاوز الفردانية في العطاء إلى التفرد، فاستحق الشكر الذي لم يكن يوما ينتظره ولاينظر إليه بمقدار ما كان يصول ويجول ليتفادى كل نقص أو لوم للضمير.

وكذلك حين نرحب ونعقد آمالًا على مسؤول قادم فهذا ليس من باب الترف، ولا التمجيد، إنما لأن جلنا يعلم ما ينتظره من عمل شاق ومجهد يقابله مجتمع لا يعي من فلسفة تلك المشقة الكثير، فينبري أحدهم ويلمح الأخر، ويتشائم الثالث، ويزأر الرابع، ويتمتم الخامس ويتهم السادس غيره بالتطبيل!

حقيقة لاتروق لي كل تلك التصنيفات ولا الانقسامات في مجتمعي، وبالعودة إلى النواقص في القطاعين الأساسيين فإني أحمل مسؤولية هذا اللاوعي على منظومة التعليم، التي انهزمت حتى اليوم من أن تصدر مادة الفلسفة على أجندة مقرراتها، وقد يتسائل سائل ويقول:

ما هذا الخلط يا منى؟ وما دخل تعليم الفلسفة بما يحدث؟ أجيبه بعين الناظر المنتظر المتأمل منذ أعوام إلى أساس النقص والقصور.

إن الفلسفة تساعد على خلق المواطن المستنير، إضافة إلى مقدرتها على تحرير الفرد وتحفيزه على التعبير المُنظَّم عن الفكرة وتجعله قادرا على التمييز ولديه المقدرة على الحكم على الأشياء وتفنيدها تفنيد العاقل لا تصنيف العاطفي.

هذا ما جادت به أفكاري المتمغنطة بين أقطاب التشاد هذا الصباح وامتزجت بحكايا تدور في خلد محيطات وبحار التواصل الاجتماعي، لأجدني لاشعوريا أقفز متسائلة بين صدع وآخر وحفرة وأخرى، أرأب تلك الصدوع وأحاول لملمة أشتاتها، لعلي أخرج من ضروس احتداماتها بأجوبة منطقية ترأب صدع جمجمتي المكسورة.

تعليق عبر الفيس بوك