د. يوسف بن حمد البلوشي
تعلو في أوقات الأزمات والتراجعات الحادة في أسعار النفط، وضغوط التزايد المضطرد في إيجاد فرص عمل للأعداد المتزايدة من الباحثين عن وظائف، نبرة الحديث عن القطاعات الاستراتيجية الواعدة في سلطنة عُمان، وهُنا ينبري قطاع التعدين والثروات الطبيعية؛ لأنه مُثبت علميًا وتاريخيًا، بأنه أبرز هذه القطاعات الاستراتيجية وأوفرها حظوظًا للمُساعدة في تحقيق التنوع المأمول، وأقلها نجاحًا في تحقيق تقدمًا ملموسًا.
والعديد من دول المنطقة، ومن بينها المملكة العربية السعودية الشقيقة، تنبهت لأهمية هذا القطاع؛ إذ تحركت في مسارات سريعة لاقتناص الفُرص العظيمة التي يزخر بها، فنجاح أي دولة يُقاس بمدى نجاحها في استغلال مواردها وثرواتها الطبيعية. ويتفق معي كثيرون، على أنه يُمكن لقطاع التعدين في سلطنة عُمان أن يكون رديفًا لقطاع النفط والغاز، ورافدًا رئيسًا للإيرادات العامة، والعمود الفقري لتحريك قطاعات الصناعات التحويلية والإنتاج المحلي، فضلًا عن أنه يُعزز الصادرات غير النفطية، ويخلق فرص عمل، شريطة أن تتم إدارته بفلسفة جديدة تحمل في طياتها نقلات نوعية تُراعي عددا من الأبعاد، أهمها:
أولًا: ضرورة إنشاء غرفة أو مركز لقاعدة بيانات وطنية للبيانات الجيولوجية والتعدينية، تكون بمثابة منصة إلكترونية ذكية لها قيمة علمية، حسب المعايير الدولية، مثل الكود الـ(JORC) الأسترالي، وذلك بهدف وضع قطاع التعدين في شاشات رادار المُستثمرين المحليين والأجانب، وبالتالي تُمكنهم من الإطلاع على ما يحتاجونه من بيانات، لاتخاذ قراراتهم الاستثمارية وهم في أي مكان بالعالم.
ثانيًا: أهمية تجنب الخلط بين قطاع التعدين وقطاع النفط والغاز؛ فكلاهما له خصائص مُختلفة، ولهما تشريعات وأسلوب عمل مُغاير؛ فالأول يتَّسم بدرجة مُخاطرة عالية، ومعلومات غير مُتوفرة حول المكامن وطبيعتها، ناهيك عن أنه يحتاج إلى أساليب وأدوات مُختلفة، ويعمل ويُنظم من خلال ما يُسمى بـ"الاتاوة، والضرائب والإيجار".. في حين أن الثاني (النفط والغاز)، يتَّسم بدرجة مُخاطرة أقل، ومعلومات نسبيًا مُتوفرة حول المكامن وطبيعتها، وأساليب وأدوات معروفة، إضافة إلى أنه يعمل بأسلوب تقاسم الإنتاج المُشترك.
قد يكون من شأن ضم قطاع التعدين الناشئ مع قطاع النفط والغاز، أن يفقد الأول العناية والاهتمام المطلوب، ويضعه في الكرسي الخلفي، بالمُقارنة مع قطاع النفط والغاز، الذي يُمثل المصدر الرئيس للإيرادات العامة وشريان الحياة للاقتصاد، الأمر الذي يوجب إفراد مساحة خاصة لهذا القطاع، بغض النظر عن مُبررات الدمج؛ مالية كانت أم إدارية.. فقد تكون العودة إلى سيناريو هيئة مُستقلة للتعدين "سيناريو جدير بالاهتمام".
ثالثًا: في نفس السياق، ثمة ضرورة لتقسيم قطاع التعدين إلى 3 أقسام رئيسة، الأول يختص بالمعادن الفلزية، كالنحاس والذهب، والثاني يختص بالمعادن غير الفلزية، كالرخام والجبس، والثالث بالمعادن الإنشائية، والتي تُستخدم في أعمال المقاولات.
وكل قسم يستوجب التعامل معه بسياسات وتشريعات وحوافز مُختلفة؛ لأن من شأن النجاح في أهداف التمدد الأُفقي لزيادة الإنتاج، والتمدد العمودي لخلق صناعات للشق السفلي والعلوي والوسطي، أن يُحقق قيمة مُضافة محلية لقطاع التعدين بشكل عام.
رابعًا: القوانين والتشريعات واللوائح المُرتبطة بقطاع التعدين؛ إذ من الضروري أن تحظى بالاهتمام والتجديد المُستمر، لتكون مواكبة مع أفضل المُمارسات الدولية، وقادرة على ضبط مسار تنمية هذا القطاع، وجاذبة للمُستثمرين المحليين والأجانب.
خامسًا: مساعدة الشركات العمانية الناشئة في قطاع التعدين بالإدراج في بورصة مسقط، وهذا أمر مهم للحصول على التمويل الكافي، والذي يعد أمرا ضروريا لتستطيع هذه الشركات مواصلة الاستثمار والنمو في هذا القطاع الواعد.
سادسًا: العالم يتجة إلى الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية، والحفاظ على التنمية والاستدامة، ومن المهم إيجاد الأطر التي تمكن الشركات في قطاع التعدين من توليد الطاقة التي تحتاجها من خلال مصادر الطاقة النظيفة؛ كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبما يساعد على الموائمة مع أهداف رؤية "عُمان 2040" والأهداف الأممية للتنمية المستدامة.
ختامًا.. يُمكن تشبيه قطاع التعدين في سلطنة عُمان بمركبة، سعة مُحركها 8 "سلندرات"، لكنها تعمل فقط من خلال "سلندريْن".. لقد آن الأوان لتشغيل باقي "السلندرات"، فنحن لسنا بحاجة إلى اختراع العجلة، فهُناك تجارب وتشريعات مُنظمة وجاذبة في العديد من الدول، يجب الاستفادة منها، كما يتوجب تسويق القطاع بشكل مهني للمُستثمرين في اللقاءات والمؤتمرات التعدينية المعروفة على مُستوى العالم، وضرورة أن يترافق مع ذلك وجود مرجعية واضحة لهذا القطاع.
ولتحقيق القفزات والتحولات المنشودة للاقتصاد العُماني، يجب أن نؤمن بالانفتاح على العالم، وبنفس الوقت مُعالجة التشوهات في بيئة الأعمال، وتسهيل وتبسيط الإجراءات؛ فعملية جذب الاستثمارات الأجنبية المُباشرة لهذا القطاع، وغيره من القطاعات، أصبحت ضرورة مُلحة للحصول على المعرفة والتكنولوجيا والخبرات وفتح الأسواق. ويستوجب الأمر كذلك، فكرًا جديدًا يمتلك المعرفة والشغف والقدرة على ربط نقاط قوة وفُرص هذا القطاع، والوصول إلى المُستثمرين الذين يملكون القدرات المالية والفنية، وإقناعهم بالاستثمار.