تسامحوا.. تصحوا

 

 

د. سليمان بن خليفة بن ناصر المعمري **

 

يُروى عن أرسطو أنه قال "إذا عشت منفردًا، فإمّا أن تكون حيوانًا وإمّا أن تكون إلهًا"!! وهذا تعبير عن الاحتياج الإنساني إلى الاجتماع والألفة والأنس بالآخر، فكما يقال "سمي الإنسان إنسانًا لأنسه"، وقد أشار إلى هذا المعنى أبو علم الاجتماع ابن خلدون، حين ذكر أن "الإنسان مدني بطبعه"؛ لذا يعد الاهتمام بتحسين قدرات الإنسان على التفاهم والتعايش السلمي مع الآخر ضرورة من ضرورات الحياة.

وسوء التفاهم وعدم التسامح مع الآخر يحيل الحياة إلى جحيم لا يطاق، وقد استعاذ النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من ذلك حين دعا ربه بقوله: " وأعوذ بك من قهر الرجال"، ويبدو أن سوء التفاهم هو مشكلة الإنسان الأولى منذ فجر التاريخ البشري حينما عجز ابني آدم أن يقنع أحدهما الآخر بحجته ووجهة نظره؛ فكان أن قتل قابيل أخاه هابيل لتكون أول جريمة قتل في التاريخ. وكثيرا ما نشبت المشاكل بين الناس بسبب أن كل طرف يحاسب الآخر على ما لم يقله بالضبط ويلومه على ما لم يسمعه منه بوضوح، وكم من قصص الحب الجميلة التي انتهت على مذبح العناد والتكبر وسوء التفاهم وعدم التسامح.

والواقع أن الناس يختلفون في تفاعلاتهم الاجتماعية؛ فمنهم الهين اللين الكريم المتسامح الذين يأمن الناس جانبهم ويأنسون بلطفهم، شعارهم: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم"؛ فهؤلاء يعبرون الحياة كالنسائم الرقيقة التي تداعب الوجوه في يوم حر قائظ فتلطف من إحساسها بالهجير ولفحة الشمس، وإذا ما طال بهم المقام في هذه الدنيا فإن من شان ذلك أن يزيد من مساحة الخير والحب والجمال والعمل على تقليل مساحة الشر والقبح والمعاناة، ولهؤلاء يسوق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- البشرى؛ ففي الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد" (رواه ابن ماجه)، فهذه الفئة من الناس تميزوا بعنصرهم الأصيل ومعدنهم الكريم، ولله در الشاعر حين قال:

أفعال كل امرئ ينبئ بعنصره // والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا

والواقع أن هذه الفئة تتقبل الاختلاف وتتسامح مع التعدد وترى أن للآخر حرية الفكر والتوجه والمعتقد، وأن التنوع ثراء وأن التعصب والتحجر والجمود أكبر معيقات التقدم والتحضر والتعايش البشري، وفي الأثر "رب قدرني على من ظلمني لأجعل عفوي عنه شكرا لقدرتي عليه"، وقد أوضح المصطفى -عليه الصلاة والسلام- هذا المسلك القويم ففي الحديث: "أمرني ربي أن أعفو عمّن ظلمني".

وهناك فئة أخرى من الناس يعاملون الآخر بكل فجاجة وغلظة، يتوقعون الشر ويتربصون بالآخر الدوائر، يتلقون الناس بالعبوس والإكفهرار والوجوم، ويرون أن تحقيق سعادتهم وأهدافهم ومآربهم في الحياة لا يتم إلا عبر شقاء الآخر وإقصائه وإيلامه والعمل على إفشاله. والحقيقة أن هذه سعادة منقوصة يكدرها الإحساس الدائم بالذنب، ولطالما اصطدمت بسوء التوفيق في الحياة، فالدنيا تدور وما يعطيه الإنسان للآخرين يعود إليه؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يستشعر السعادة وهو مؤرق الضمير لفعل أو جرم ارتكبه ولله در الشاعر حين قال:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه // وصدق ما يعتاده من توهم

وقد أشارت الدراسات إلى أن تأثير الرغبة في الانتقام لها تأثير على الشخص المنتقم يعادل تأثير تناول العقاقير المستخدمة في علاج أمراض السرطان- أجاركم الله- ولك أخي القاري أن تتخيل حجم تأثير هذه العقاقير؛ إذ تتسبب في تساقط شعر المريض، كما تؤثر على وظائف الجسم الأخرى، إضافة إلى تأثيرها النفسي البليغ. وثبت من دراسات علم النفس الجسمي أن الحقد والكراهية ينطبعان مع طول الانطواء عليهما على وجوه أصحابها، فيدمغانها بطابع شيطاني الملامح حتى ولو كانت ملامحهم وسيمة، وأن صفاء النفس وطيبتها ينعكسان مع طول الزمن على وجوه أصحابها فتطبعها بطابع سمح مريح، وقد قيل لأرسطو: "ما بال الحقود أشد همًّا من الآخرين، فأجاب: لأنه أخذ نصيبه من هموم الحياة، وأضاف إليه غمه بسرور الناس".

إذن.. هل من عاقل بعد هذه الأضرار الصحية والتأثيرات النفسية للانتقام وعدم التسامح أن يظل على إصراره في حمل عبء الأحقاد والتشبث بالرغبة في الانتقام؟ الواقع أنه بلا شك ستكون الإجابة بالنفي، وقد تنبه ذوي الألباب والعقول لمثل هذه النتائج الكارثية للتعصب والانتقام وعدم التسامح، فنأوا بأنفسهم عنه وترفعوا بأخلاقهم النبيلة وشمائلهم الكريمة عن الوقوع فيه، وارتدوا أثواب التسامح واللين واللطف مع الآخر واحترموا الاختلاف وأنصفوا مخالفيهم على قاعدة" رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وقد سئل الإمام أبو حنيفة النعمان ذات مرة: يا شيخ هذا الذي تفتينا به أهو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال متحيرا: والله لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه. وهناك كلمة مشهورة لفولتير قالها لجان جاك روسو حين حكمت السلطات السويسرية بإعدام كاتب "العقد الاجتماعي"، وكان فولتير لا يقر روسو في هذا الكتاب، إلا أنه قال: "إنني لا أؤمن برأيك لكني على استعداد لأن أموت دفاعًا عن حقك في أن تبديه للناس وتعلنه لهم".

وخلاصة القول.. فإنه لتحيا البشرية في السلام الذي تنشده والوئام الذي ترتجيه عليها أن تتحلى بخلق التسامح وقبول الآخر، ولتعلم أن ترياق الكثير من الأمراض النفسية والعصبية التي تسم هذا العصر هو في الألفة والاجتماع والأنس بالآخر، وأن يكبح الإنسان رغباته الجامحة وتطلعاته غير المنضبطة عبر الاطمئنان إلى عدالة السماء والتسليم لإرادة الخالق فيما قدر وقسم من أرزاق وأقدار وليتقبل أقداره بكل شجاعة كما قال الشاعر الإنجليزي جون ميلتون: "أنا لا أعترض على مشيئة السماء"، وليتذكر المقولة البليغة للدكتور زكي نجيب محمود "إن حدة العاطفة والانفعال معناها العجز في التفكير"، وأن من يعرف كل شيء يعفو عن كل شيء.

لذا تسامحوا.. تصحوا، وأول خطوة في هذا الطريق أن يتسامح الإنسان مع ذاته، وأن يتصالح مع نفسه التي بين جنبيه.

** متخصص في قضايا الإرشاد الوظيفي

تعليق عبر الفيس بوك