ماذا نريد من وزير الإسكان؟

الطليعة الشحرية (حالوت ألخاندروا)

(1)

بالتزامن مع الاستضافة المقررة لمعالي الدكتور خلفان بن سعيد الشعيلي وزير الإسكان والتخطيط العمراني في مجلس الشورى، والاستعراض المرتقب لبيان الوزارة حول أبرز المشاريع الحكومية في مجال الإسكان وتخطيط المجتمعات العمرانية، ينبغي أن نكون على اطلاع بأهم التجارب المضيئة حول العالم في هذا المضمار، وأرى أن التجربة السنغافورية من أبرز وأفضل التجارب.

ففي تقرير صادر عن "لجنة الإسكان" التي كانت تابعة للحكومة السنغافورية المُعيَّنة من قبل الاستعمار البريطاني في العام 1947، وردت عبارة "واحدة من أسوأ المناطق عشوائيةً في العالم".. وكان للاستعمار وقتها محاولات عدَّة لمُعالجة مشكلة الإسكان في سنغافورة عن طريق تأسيس شركة "Singapore Improvement Trust" والمعروفة اختصارًا بـ"SIT" في أواخر عشرينيات القرن الماضي وتحديدا في العام 1927، إلا أنَّ تجربة الشركة مَنيتْ بالفشل، رغم أنَّها استمرت لمدة 32 سنة لم تبنِ خلالها غير 23 ألف وحدة سكنية، تاركة أغلب سكان سنغافورة يتكدَّسون في عشوائيات على طول نهر سنغافورة دون كهرباء أو مياه نظيفة، أو أيِّ خدمات تذكر. حينها؛ قرَّر السنغافوريون حل شركة "SIT" التي أسَّسها الاستعمار، وأسَّسوا بديلا عنها مجلس الإسكان والتنمية الذي يُعرف اختصارًا بـ"HDB".

واجه المجلس أوَّل اختبار حقيقي له بعد عام من تأسيسه، وتحديدا في العام 1961م، حين اشتعل حريق كبير في منطقة عشوائية مبنية من الصفيح في منطقه Bukit Ho Swee، واستمرَّ الحريق حينها إلى أن أحرق ما يعادل 8 ملاعب كرة قدم، تاركا ما يقارب الـ16 ألف شخص مشرَّدين بلا مأوى. إلا أن مجلس الإسكان والتنمية أثبت قُدرته على حل تلك الأزمة؛ حيث قام بإسكانهم في شقق حكومية جديدة منخفضة الإيجار؛ الامر الذي عزَّز ثقة المواطنين السنغافوريين بالمجلس، خصوصا بعد تجاربهم المريرة مع الاستعمار.

(2)

بعد أربع سنوات من هذا التاريخ، تغيَّرت سياسية المجلس، من بناء الشقق للتأجير إلى سياسية التمليك، ويعود الفضل في ذلك إلى رئيس مجلس الوزراء السنغافوري ليّ كوان يوو، والذي يعدُّ مؤسس سنغافورة الحديث. آمن ليّ كوان يوو بأهمية امتلاك كل مواطن لمنزل؛ لأنَّ ذلك يُعزز شعور الانتماء لدى الموطنين وعند باقي الشعب الذي يتكوَّن من أعراق مختلفة. وعلى هذا الأساس، أطلقتْ الحكومة السنغافورية في 12 فبراير 1964 مشروعًا جديدًا أطلقت عليه "مشروع ملكية الإسكان للشعب".

وكان هذا المشروع حجر الأساس للطفرة الإسكانية في سنغافورة، إذ أصبح للمواطن السنغافوري الحق في امتلاك شقة مُجهَّزة بكافة المرافق وبأسعار مخفضة. وهكذا أصبح المواطن يملك شقة، ولكن هناك شرط في عقد البيع وهو أن المواطن له حق الانتفاع لمدة 99 سنة، بعدها يحقُّ له التصرف بالبيع أو الشراء وفق شروط معينة.

ولكي يحثُّ مجلس الإسكان والتنمية السنغافوري المواطنين على الامتلاك بدلاً من التأجير، جعل القسط الشهري للأسر التي دَخْلها أقل من 800 دولار سنغافوري شهريًّا، اقل من متوسط الإيجار الشهري للشقق.

إضافة لذلك، أسهم قانون سنَّته الحكومة السنغافورية في العام 1968م -والذي يسمح للمواطن بأن يأخذ جزءًا من صندوق التقاعدات الحكومي، والذي يُعرف بصندوق الادخار المركزي- في تسهيل عملية دفع مقدم وأقساط الشقة.

(3)

الشقق الحكومية في سنغافورة تنافس أي شُقق أخرى تنفذها أفضل شركات التطوير العقاري في العالم؛ من حيث كفاءات التنفيذ وجمالية التصاميم وجودة الخدمات؛ فتجد شققًا تناسب محدودي الدخل وأخرى تناسب الأثرياء؛ فلك الاختيار بين شقة من غرفتين بمساحة 36 مترًا أو 45 مترًا إلى أن تصل Executive Maisonette والتي تبلغ مساحتها 216 مترًا.

ومن المهم معرفة أن مشاريع الشقق الحكومية السنغافورية تدعم فكرة Mixed-Income (الدخول المختلط)، لقد ارتأى "ليّ كوان يوو" أنَّ تقسيم الطبقات حسب مدخولها (الأغنياء معا، والفقراء معا، أو حسب مجموعته العرقية) يُعزز الانقسام وروح الاغتراب، وإن كانوا يعيشون في نفس البلد. ويُمكن أن تجد فقراء في سنغافورة، ولكن لا يُوجد بها أحياء فقيرة، وهذا أحد أسرار قطاع الإسكان الحكومي في سنغافورة، وهو ذاته سر الفشل الذريع لقطاع الإسكان في مدن عالمية كُبرى في العالم؛ أمثال: نيويورك وشيكاغو وباريس. ففي العام 1950 وفي مدينة شيكاغو، بدأتْ الحكومة الأمريكية -عبر هيئة الإسكان- بناء مشروع إسكان حكومي لمحدودي الدخل عرف باسم Cabrini-Green Homes، ويضم 23 برجاً سكنيًّا بها 3000 شقة، انتهت عملية الإنشاء بعد 12 سنة، وبدأ تسكين 15 ألف شخص من الفقراء ومحدودي الدخل في الولاية.

عاش هؤلاء الفقراء ومحدودو الدخل في تلك الأبراج، وفي غضُون بضع سنوات أصبحت تلك الأبراج بؤرة لجرائم القتل والفساد والمخدرات والاغتصاب؛ الأمر الذي جعل الصحافة وقتها تصفها بالمنطقة الأكثر رعباً في أمريكا؛ مما دفع الحكومة لإهمال المنطقة أكثر، إلى أن توصلت إلى حلٍّ نهائي وهي مساواة تلك الأبراج الشاهقة بالأرض، والتي تعتبر التجربة الأمريكية الأكثر فشلًا في تاريخ الإسكان.

(4)

المواطن السنغافوري يمتلك الحق في امتلاك منزل ذي جودة وكفاءة، وكلُّ ما عليه فعله فقط تقديم طلب إلى مجلس الإسكان والتنمية، وينتظر 3-4 سنوات، ويُمكن له أن يختار المواصفات التي يريدها، وإذا شعر المواطن أن المدة طويلة فيمكن أن يشتري أي شقة من مالكها، شرط أن يكون المالك قد مضى على امتلاكه للشقة 5 سنوات، وإذا كان المواطن أعزب فتختلف الإجراءات؛ حيث لا يحق له التملك إلا إذا بلغ 35 سنة، وتزيد التسهيلات إذا أنجب المواطن، كما يحق له أن يختار سكنًا بالقرب من ذويه.

(5)

"التحوُّل الشامل".. مرَّت بي هذه العبارة المتفائلة والطموحة، والتي نشرتها وزارة الإسكان والتخطيط العمراني عبر نظام خدمات "اختار أرضك"، وهي بالفعل نقلة في الخدمات المطروحة، ولعلَّها تكون بداية لخدمات أشمل وأوسع مستقبلاً. ولكن السؤال ألا يُمكن لوزارة الإسكان تبنِّي موضوع "تمليك المنازل ذات الكفاءة والجودة والمزوَّدة بكافة الخدمات"؟، ألا يمكن كفالة حق التملك لجميع المواطنين بغض النظر عن الجنس أو الحالة الاجتماعية؟.. لكم كُنت أتمنى إطلاق نظام خدمات "اختر منزلك".

... تعدَّدت التجارب الإسكانية حول العالم، ومنها ما انتهي به الأمر إلى فشل ذريع، ومنها ما نجح جزئيًّا، ولكن بلا شك تبقى تجربة الحكومة السنغافورية مثالاً رائدًا يحتاج دراسات لاستلهام الفكرة ومحددات إنجاحها.