"سداب" تعرف خسارتها

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

تويتر: @ludamy

محض حياة يعيشها المرء على هذه البسيطة، محض حياة؛ إما أن تكون حياةً مليئة بالإنجاز أو تافهة لا تقدّم فيها، ولا حياة وسط بين هاتين الحياتين.

الخسارة الحزينة مؤلمة في كل الأحوال، توجع القلب، تتوشح المشاعر بغيمة من الكآبة والجوى حينها، وهي فعل إنساني طبيعي، لكن مصلحة العبد فوق كل اعتبار يشعر المؤمن حينها بالسكينة والأمان، ولا يعرف الخسارة إلا صاحبها.

العبد الذي يؤمن بأن كل الموجودات ومن ضمنها الإنسان سيرجع يوما إلى مآله، يؤمن أيضا أن "زوان العلوية" قد خسرتها "سداب"، وهي خسارة تعيش في حركات وسكنات بيتها لكن سكان البيت يعلمون بأنها في رعاية خالق كريم أراد لها الخير، وهذه سنة ليس لها نهاية.

اعتدنا عند كل فقد سماع الأصوات العالية، لكن الهدوء كان يطوق المكان وكأن الحضور يراها حية تنعم بحياة أخرى كريمة، ولم تكن الخسارة مستساغة لديهم لأن ما حدث مكسب لها وهو أمر محمود، لم تعلُ أصوات النساء بالنشاز أو هكذا قيض لنا استنتاجه من الهدوء الغريب قبل التشييع وأثناءه وبعده. 

في الشرق من مسقط العاصمة تقع قرية ساحلية صغيرة تسمى "سداب" تتوسط معلَمين كبيرين فهي في رعاية قصر العلم وعناية مجلس عُمان، وأهميتها لا تأخذها فقط من هذين الصرحين الكبيرين، بل أيضا من طبوغرافية المكان؛ حيث الجبال التي تحكمها وتتحكم في مساحتها من الخلف، وبحر عُمان الكبير من الأمام، تشبه في طبوغرافيتها - إلى حد بعيد - قرية "كمزار" إحدى قرى محافظة مسندم في أقصى الغرب من عُمان.

من يعرف "سداب" يعلم كم هي هادئة ومهادنة؛ فهي صديقة القصر وأهلها يحبون السلام، من هنا اكتسبوا صفة التسامح والخلق متزينة بهاتين الصفتين بشكل عميق.

قبل ثلاثة أسابيع تقريبا كان الناس في "سداب" والقرى القريبة موعودون بخبر هزّ محيطها بأزقته وجدرانه، بمآثره ومفاخره؛ فوفاة معلمة القرية كان حدثا مؤلما لأبنائها ولكثير من طلابها وجيرانها وأحبتها، وخسارة مدوية لكل معارفها، فلن تبقى سوى الذكريات؛ الذكريات التي ستحيط بكثيرين منهم ولن تبرح الذاكرة بسهولة، فهي معلمة لكتاب الله، سيجد طلابها طعما حلوا في الاستئناس بذكريات الطفولة، وسيجد الجيران متسعا من الحديث الذي لن ينتهي لذكر مآثرها الكثيرة، وستجد "سداب" ما تفتخر به كلما جاء ذكرها.

اتسع بيتها الصغير لتلك الأمة التي هبت تخاتل تاريخها وطفولتها فيه فوجدت متسعا رحبا في سيرتها، ووجدت عمرا يطفو على ريحان ممتد ويقطف ما طاب له من فواكه كثيرة، وتحظى بعناية الكريم المتعال.   

حينما تعيش في كنف مجتمع متحاب متعاون متعاضد لا تخشى شيئا في هذه الحياة، فالمجتمع يشد بعضه، بأخوته ووشائج القربى والتآزر، ملاحم من الترابط القوي الذي يعكس عمق الثقافة التي تحيط به، كنت قريبا من المشهد وكانت علاقتي بها قوية لكن من بعيد، وهي لا تعتب فسماحة قلبها من سماحة تربتها ودينها.

ترتوي أعمارنا فيض حلم عابر في هذه الدنيا، لا نرغب بمفارقته، ونخشى النأي عنه، النأي الذي يجعلنا بمتسع عن محيطنا، لذا فنحن ضعفاء في مسائل البعد والفراق بينما آخرون آمنوا بتاريخهم ومنجزاتهم لا يخشون ذلك لأنهم يدركون أنهم سينصَفون، والحاجة "زوان" من بين هذه النسوة اللاتي آمنّ بذلك، فهي عذبة اللقيا وعذبة المنأى وعذبة التاريخ.

كان "بيتها" وبعد ذلك "ظل الجسر" ملاذا لطلبتها، تعلمهم القرآن في مساحات صغيرة بسيطة ضيقة، لكن الأفق كان أعلى طموحا فمنهم من أصبح مهندسا ومنهم كاتبا وآخرون مسؤولون كبارا في البلاد، أخذت الدنيا منها حقها وأعطت هي ما تستطيع ومن ثم طلبت مكانا ومكانة أعلى فكان لها ما أرادت.

تعليق عبر الفيس بوك