أخطاء تاريخية.. هل نتعلم منها شيئًا؟!

 

د. صالح الفهدي

تطرَّق سماحة المفتي الشيخ أحمد الخليلي حفظه الله في الجزء الأول من لقائه في برنامج "المقابلة" على قناة الجزيرة، إلى أخطاء يجدرُ بنا أن نتوقَّف عندهما طويلًا؛ بل لا يُغنينا التوقف من تعلُّم الدروس، والاستفادةِ منها؛ فالتاريخُ ليس مجرَّد مُعلِّمٍ أخرس، إنَّما هو معلِّمٌ ناطقٌ بالحجَّةِ والبرهان، يرفعُ عقيرته لبني البشر كي يدقِّقوا أحداثه، ويتفحَّصوا وقائعه، ويستلهموا دروسه، من أجل أن يستفيدوا في حاضرهم ومستقبلهم مما وقع فيه أسلافهم من قبل.

الأخطاء التي كانت- ضمن جملة أخطاء أُخرى لا شك- وراء انتهاء حقبة حكم العمانيين لزنجبار، والنفوذ العربي في زنجبار قبل منتصف الستينيات من القرن العشرين، أولهما- في نظر سماحة الشيخ- عدم تعريب المنطقة؛ أي نشر اللغة العربية فيها، وثانيهما عدم غرس مفاهيم التربية الإسلامية في نفوس الناشئة التي تشرَّبت أفكارًا ماركسية فيما بعد.

هُنا أربطُ ما ذكرتهُ في مقالي الذي صدرِ في صبيحة اليوم الذي بُثَّ فيه لقاء سماحة المفتي، بعنوان "هل لدينا مشاريع تصون الإنسان؟" وكان حديثي فيه عن التحديات التي تواجه الهويات والأخلاقيات والإنتماءات في ظل تداعيات خطيرة تتقصَّد فرض أجندات تحت بنود مضللة لـ "حقوق الإنسان" و"المساواة" و"الحريات الفردية".

وصِلةُ الرَّبطِ هُنا هي قضيَّة الهوية التي كانت سببًا من أسباب نهاية التواجد العُماني في زنجبار أي نهاية تاريخ، أو نهاية إمبراطورية، وإذا كانت هناك من الأسباب الكثيرة التي أدَّت لتلك المحطة المحورية في تاريخ الحكم العماني في أفريقيا، فإنَّ مسألة الهوية هي مسألةُ اللُّب والجوهر الذي إن ضُربَ في مقتل تداعت كل الأركان الأُخرى خائرةً إِثرَ ذلك، فماذا يقيم القصر الشاهق المنيف إن ضعفَ أساسه، وتخلخلت قاعدته؟!

لقد نتج عن الخطئين الرئيسين الآتي: ميول العرب أنفسهم إلى تفضيل الحديث باللغة الأفريقية (السواحلية) بسبب عدم الاعتناء بتعليم اللغة العربية واعتبارها لغة أساسية؛ وبالتالي أصبحت لتلك الأفضلية ميزة تفوُّق على لغتهم الأم، وتراجعت قيمتها، فكيف يتحدَّث بها غيرهم وأهلها لا يستطيبون الحديث بها بل يفضلون الحديث بلغة الآخر؟!

أما ما نتج عن الخطأ الآخر (عدم الاعتناء بترسيخ مبادىء وقيم الدين الإسلامي في نفوس الناشئة)؛ فتمثل في ظهور جيل من العرب؛ بل ومن العمانيين الذين تبنّوا الفكر الشيوعي وكانوا أشدَّ قسوةً وغلظة على بني جلدتهم ووطنهم من الأفارقة أنفسهم بحسب كلام سماحة المفتي، وقد ضرب الشيخ مثلًا بأحد الشباب العمانيين في فعلته الشنعاء بقتل عدد من بني جنسه ووطنه في سبيل إرضاء من ينتمي إليهم فكرًا وعقيدة!

هذه الأخطاء تجعلنا نتوقف عندها لنستنبط منها دروسًا نسقطها على واقعنا الذي بيَّنا سابقًا ما يواجهه من إشكالات خارجية وداخلية؛ منها ما يتعلَّق بقضايا إعلاء أفضلية اللغة الأجنبية على اللغة الأم لدى الناشئة والشباب وقربها باعتبارها وسيلة تواصلٍ أفضل وأجدى فيما بينهم، ومنها ما يتعلَّق بـ"الخلايا النائمة" التي تتحرَّك بين حينٍ وآخر لدعم قضايا أخلاقية دنيئة، أو انحرافات عقدية، أو إلحاد.

لقد رأينا أثر الإهمال، والإعراض عن الإهتمام بقضايا الهوية وما تكتنفه من عناصر أساسية؛ كالدين واللغة والتاريخ والأخلاق والعادات والتقاليد والقيم بصورة عامة، وكيف أن أثر ذلك يعني نهاية أمةٍ وتاريخ، وذلك فيما أبانه سماحة الشيخ في لقائه!

ومن هُنا.. فإنني أرى أن هناك قضايا أساسية تحتاج إلى إعمالِ فكر، وتفعيل إرادة، ومضاء سياسة، ونفاذُ قرار، وهذا لن يكون إلا بسلطة عُليا تؤمنُ إيمانًا قاطعًا بأهميةِ ذلك، وبالآثار السلبية المترتبة على حالة الإهمال، والتجاهل.

وأول تلك القضايا هي فهم الدين وقيمة الإيمان للإنسان وما يتبع ذلك من وسائل مبسطة لا يمكن أن يتصدى لها إلا أُناس لهم تخصصات ليس بالضرورة دينية وإنما لديهم القدرة على بسط وسائل الإِقناع العقلي وإيصال محتوى الفكرة الدينية، وتبسيط وسائل الخطاب الديني. ثواني هذه القضايا تأسيس التعليم وفق ركائز عقلانية تتوسَّل الفهم لا الحفظ، وتتقصد البناء الفعلي لشخصية الإنسان السويَّة.

أما ثالث القضايا فهي الإنتماء للجذور التاريخية، وأثر ذلك على الفرد في حاضره ومستقبله، أما رابع القضايا فهي قضية اللغة العربية؛ فاللغة أساسٌ محوري في تكوين الإنسان ثقافة وفكرًا، وهي ما يُحدد منطلقاته واتجاهاته في المستقبل. أما خامس القضايا فهي القيم الإنسانية التي لا يستقيم كيان الإنسان المتزن إلا بتعضيدها وتعزيزها في نفسه. وسادس القضايا هي إعلاء قيمة الوطن ورفعة شأنه، وإعلاء المصلحة الوطنية فوق كل مصلحة خاصة.

لا شك أننا إن لم نستفد من دروس التاريخ، فلن ينفعنا فيما بعد التحسُّف والندم؛ فالأمراض واضحةٌ بعد تشخيصها، والأدوية حاضرة، وما بقي سوى الطبيب الذي يعالجها، وإن وُجد فإنه بحاجة إلى الوسائل التي تمكِّنه من علاجها.