وعد الكلمة

 

بدر الشعيلي

الكلمة هي نسيج حافل ضمن خضم الرسالات التي ينسجها بنو البشر؛ إذ بها ابتدأ العالم، وبها انتظم الكون في نظامه المعهود لدينا الآن. ويصطنع الإنسان هذه الكلمة في سبيل أن يتواصل مع الآخر؛ كم هو عجيب هذا الإنسان في حياته السائلة التي يأمل العيش فيها بسلام؛ يحاول إيصال فيض من مكنونه الداخلي إلى الآخر الخارجي، ولكن لا تسعفه حركات جسده ليعبر عن فيضانه الداخلي؛ فلجأ إلى عمق الكلمة، وحاول استنطاق ملكاته الداخلية ليخلق نسيجا متماسكا من المعاني في ظل اختلاق ذاتي يشي برسالة عميقة المدى.

لا أدري سبب هذه الحاجة للتواصل إلا القول إن الإنسان متمسكن حول ذاته، فقير إلى غيره، لا يدري الفقر المحيط بذاته الكائنة حوله، ولا يدري -بإحساس متغافل- أن الأنا التي بداخله هي بعيدة عن الكمال، ساعية إلى الوصول إليه.

عندما أنظر إلى الحيوان وهو يحاول اختلاق اللغة على كافة مستويات الحيوانية، أجد أن لغة الإنسان تجلب الدهشة المستمرة في قضاياها المتعددة؛ فالحيوان يريد من لغته أن يُفهم الآخر الشيءَ الذي يريده، وهذا موجود في اللغة الإنسانية، ولكنها المرتبة الدنيا في الدلالات المتعاضدة بعضها إلى بعض. والشيء الذي يؤرق الباحثين والمثقفين حول هذه الكلمة هي معانيها الفائضة عن حيز الحصر.

الإنسان هذا الكائن العجيب الذي أفرز الكلمة يستحق أن أقف عليه -كإنسان- لأتأمل الدهشة في خلقه لهذه العجيبة اللغوية. أرى البغبغاء في محاولته تقليد بني البشر، وتفانيه في أن يستعيد طاقته التكرارية في سبيل القيام بـ"المحاكاة"، ولكن حين أُطيل النظر في هذه الكلمة التي أخرجها أجد أن غايته من الحديث ما هي إلا تكرار جهد افتعله الإنسان بذاته وابتكاراته ليوصل الطبق جاهزًا لهذا الكائن التكراري.

أصوات الحيوانات التي نراها عند ذهابنا للحديقة يجب أن تستوقفنا للتأمل المحض في اختلافاتها المتنوعة بينها، ثم في الفرق بينها وبين لغة الإنسان، وهل يا ترى -حسب مقال دارون- أن الإنسان لم تكن لغته قبل ملايين السنين بهذه الطريقة؟ الموضوع محتاج لفضل نظر ومزيد تأمل؛ لوضع النقاط الثقافية الفكرية على حروفها.

الفعل القائم المعبر عن ماهية الأحداث.. الفاعل الذي يباشر هذه الأحداث المترامية على قارعة الزمن.. المفعول به الذي وقع عليه فعل الفاعلية المتأصل.. هذا المنطق الذي بنى عليه الإنسان كلمته يستحيل على الحيوانات دونه أن تهيكل دماغها بهذه الطريقة المنطقية، وتعمد إلى إنتاج لغة منطقية.

قد يسأل البعض قائلا: لم تعدّ لغتك ومنطقك هو الأقرب إلى المعيارية المثالية؛ إذ قد يكون للغة النمل منطقا ومعيارا تقوم وتستند عليه؟، وهذا السؤال الذي يقذف بنا بعيدًا لنرى الأشياء عن كثب، يحتاج إلى تأمل باذخ؛ لنقف حول هذه الإشكالات الفلسفية العميقة، ونرى نحن البشر أنفسنا في خارطة الكون الممتدة.

تعليق عبر الفيس بوك