جمال لا يندثر

 

نور بنت محمد الشحرية

الملكة الإبداعية للموهبة تستمد أصولها من روح الشخص وشغفه، كحب الكتابة والرسم والعزف والإلقاء الشعري والفن بكافة صوره أو أي حرفة تحتاج لمهارة خاصة لتشكل من أي قالب تحفة فنية، ينبهر الجميع بها، ويفتتن المختص في مجالها بجمالها.

ذاك الجمال الذي لا يلمحه إلا من تشرّب الحرفة أو الهواية أيا كانت، الجميع يأخذ بالمجمل إلا المبدع، تأخذه التفاصيل يهيم بها، فمن أول نظرة له إلى العمل يلتفت لإسقاطاته، وإذا كان مكتملا  تراه منبهرا مذهولا، وللعجب الجميل أن كل أهل الحرف والهوايات تراهم عشاقا منصفين ومعجبين متيمين لبعضهم البعض ، فقلما تجد شاعرا متمكنا ذا خلق، لا يعجب بأشعار آخرين، يحفظها ويرددها مادحا إياها، أو تجد كاتب حذقا لا يغرم بحروف الآخرين وتسلسل أفكارهم وروعة عباراتهم.

وعندما تمتزج الهواية الفنية أو الأدبية لدى الشخص بعلم درسه وأتقنه، تكون النتيجة أثرا خالد؛ كمثال على ذلك كان ليوناردو دافنشي مهندسا معماريا ومصمما ورساما بارعا، فكانت دقة التكنيك لديه في الرسم بمثابة الأعجوبة، لترسم وتصمم وتخلد ريشة فنه في لوحات أبهرت العالم بروعة جمالها ودقة تفاصيلها الهندسية وظلالها، لتحاكي رسومات ثلاثية الأبعاد في وقتنا الحالي؛ بل وتفوقت عليها جميعا لوحته الشهيرة "الموناليزا" والتي يأتي لزيارتها في متحف اللوفر في باريس من كافة أقطار المعمورة، زهاء الستة ملايين زائرا سنويا، ولا يخبو أو يبهت بريق تفردها وتميزها مع تقادم السنوات.

وعندما يعاني الملهم يتفجر من خضم معاناته بركانا من الإبداع الروحي الملحمي، أسلم شاعر الحكمة الكبير الشاعر المخضرم كعب بن زهير بن أبي سلمى، وأتى مسلما تائبا نادما متخفيا بعدما أهدر دمه على ما كان منه في هجاء المسلمين؛ فكانت قصيدته العصماء في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول // متيم إثرها لم يفد مكبول" حتى ألبسه الرسول -عليه السلام- بردته ليهون عليه هول ما يجده في نفسه من حسرة وندم، وسميت القصيدة على إثر ذلك ب "البردة"، وتعد هذه القصيدة من روائع الشعر العربي ومن أجمل المدائح التي قيلت في المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو للمدائح أهل، وما بعد مدح الله له في كتابه- عز وجل- مدح "وإنك لعلى خلق عظيم".

وقد يكون الشغف بالهواية هو الدافع للتعلم الذاتي والإبداع المعرفي، فالكاتب العربي الشهير عباس محمود العقاد، لا يحمل سوى شهادة المرحلة الابتدائية لظروف أسرته، ولكنه اعتمد على ذكاءه وصبره في التعلم والمعرفة؛ فتعلم الإنجليزية من السواح الذين يفدون إلى مدينته اسوان، واطلع على الثقافات البعيدة من خلال القراءة بالإضافة إلى العلوم العربية مما هيأه ليكون صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى، وقد عمل بجميع أنواع الأدب العربي والمترجم، واستطاع أن يساهم في الحياة الأدبية والسياسية لوطنه، ومثل أدبه حالة فريدة في الأدب العربي الحديث، وملأت مؤلفاته أرفف المكتبات وتصدرت كتب الأدب العربي، ورفض أن يتسلم شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة. أغناه خصوبة فكره المعرفي عن تسلم الشهادات المهداة والجوائز التقديرية التي تمنح له من الدولة، وله مقولات أدبية جميلة وعميقة كأدبه ومن جميل ما قاله عن القراءة: "أحب قراءة الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني".

أساس الأبداع أن تحب ما تقوم به وتمارسه من هوايات، وتخلص للإتقان فيه بأن يكون عزفك على أوتار ما تعشقه. الإبداع لا يشترط مالا أو علما أو ضجيجا. عبقري الكوميديا الممثل شارلي شابلن ترك أثرا كبيرا على السينما، وشهرته كانت في زمن السينما الصامتة، عبقرتيه لم يقف أمامها صمت السينما أيامها، ولم يمحو أثره من جاء في زمن الأفلام الناطقة ذات المؤثرات السمعية والبصرية.

ولرعاية الموهوبين وبالذات من الجيل الحالي، فإن للمبادرات الفنية والأدبية والعلمية والتقنية والرياضية، أهمية كبرى في دعم المواهب والطاقات الإبداعية، من خلال دعم المبدعين لبذل مزيد من تكثيف الإنتاج، ولرعاية تلك المواهب يلزم تعاون إبداعي مشترك بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص؛ وذلك عبر الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي والتقنيات التكنولوجية الأخرى؛ لجذب المبدعين لتعزيز ثقتهم بما ينتجونه بالتشجيع والتحفيز من المختصين في مجال مواهبهم.

وللبيئة المحيطة بالأشخاص عظيم الأثر عليهم؛ سواء بيئة الأسرة أو المدرسة أو المجتمع أو العمل، من خلال إتاحة الفرصة وتقديم عبارات التشجيع والمؤازرة ومحاولة تذليل العقبات والصعوبات لمن حولهم، فكم من مبدع متميز عبر الأجيال المتعاقبة ومتسابق فائز في مختلف البرامج عزى تفوقه للأهل أو المعلمين أو الزملاء أو المسؤولين فكونوا عوامل بناء لا معاول هدم، من منا ما زال محتفظا بعبارات الإعجاب والتشجيع التي سمعها في صغره، وأثرت على مسيرته إيجابا، وكم من مبدع توقف في بداية الطريق وربما حتى منتصفه رغما عنه وآثر الاستسلام؛ لأنه لم يجد التشجيع الكافي للمقاومة والاستمرار وخسارته للأسف تعد خسارة للجميع.

تعليق عبر الفيس بوك