د. صالح الفهديِ
لا أعرفُ جابرا، لكنني وددتُ لو أني عرفتهُ حين جمعتني أحاديث مع بعض الموظفين في إحدى المصالح الخدمية عن الأثر الذي يتركهُ المسؤول في موظفيه، والموظف في مُراجعيه، فتحدَّث أحد الموظفين عن مديره السابق الذي تقاعدَ من الخدمةِ منذ عدَّةِ سنواتٍ دون أن يذكر اسمهُ قائلًا: أنه رغم خروجه منذُ سبعُ سنوات إلاَّ أننا نحن موظفيه نذكرهُ دائمًا بخير، حينها التفتَ موظف آخر من دائرةٍ غير دائرته قائلًا: هل تقصد جابر؟ قال الموظف: نعم، فردَّ عليه: لا أحد مثل جابر..!! حينها وددتُ أن أتعرَّفَ على جابر لأعرفَ ماذا صنعَ ليبقى ذكرهُ الطِّيبُ على لسانِ موظفيه، وغيرهم رغم أنه قد تركَ العمل منذ عدِّةِ سنوات!
كم هُم الذين مثلَ جابر سواءً كانوا مسؤولين أو موظفين تركوا أثرًا في غيرهم من الناس ومضوا، ولكن بقي عِطرُ ذلك الأثر، بقي جميله، بقي ذكرهُ الخالد في القلوب، يقول الروائي الروسي العظيم ليو تولستوى: "ثروة الإنسان هي محبة الآخرين له" سردنا قصصًا عن التواضعَ في خدمةِ الناس، عن حسن المعاملة، عن بشاشة الوجوه، عن طلاقة القسمات، وسردنا قصصًا أُخرى عن المتعجرفين المتعالين أولئك الذين تعاملوا بفوقيةٍ وتعالٍ مع موظفيهم أو مع أصحاب المصالح الذين يقصدونهم، وتحدَّثنا عن النهايات الطيبة لأولئك المتواضعين، والنهايات القاسية لهؤلاءِ المتكبرين..!
يتغافل البعضُ أنَّ الله قد منحهم سلطةً ما ليختبرَ أخلاقهم وليمتحن أنفسهم فيرى إن كانوا سيتواضعون ويتلطَّفون للناس ويعاملونهم بالحُسنى، أم يتعالون ويبطرون، وكثيرًا ما يمثِّل الناس ذلك بـ "الكرسي الدوَّار" الذي لا يستقرُّ حاله لمسؤولٍ حتى يدور به فيخرجه ليجلسَ عليه آخر، والكرسي هو الكرسي لا يتغيَّر إنما الأطباع والأخلاق والنفوس هي التي تتغيَّر، وتبقى المقارنات بين مسؤولٍ وآخر، بين موظفٍ وآخر، يبقى الأثر الطيب، أو السيء الذي يُذكر به الإِنسان.
السلطة هي ميدانُ الأخلاق- كما أقولُ دائمًا- وقد انتشرَ لي مقطعٌ مرئي أقولُ فيه: "قال لي: إن فلانًا طيب، قُلت: اعطهِ سُلطه"..! لأنني أُدرك تمامًا أن السلطة إما أن تخرجَ أفضلَ ما فيه، أو "تُخْرِجَ أسوأ ما فيه" كما انتهى إلى ذلك البروفيسور زيمباردو في تجربة سجن ستانفورد الشهيرة..!
لا أعلمُ ما الخيرُ فينا نحنُ المسلمون إن كنَّا نؤدي الشعائر العبادية، ونغفل عن العبادات العملية في حياتنا ومنها التعامل الحسن مع الناس، وقيمة قضاء الحاجات العظيمة الأجر، فترى بعض من يقومون على خدمة الناسِ وهم شاحبو الوجوه، جامدو القسمات كأنَّما يشحت الناس منهم بعض مال، أين هم من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وَلْيَسَعُهُمْ منكم بَسْطُ الوجه وحسن الخلق"، وأين الذي لا يعيق شؤون الناس، ويعرقل مصالحهم من قوله صلى الله عليه وسلم": "مَن أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم"، فالإِسلامُ ليس مجرَّدَ شعائر تعبدية، وإنَّما هو أسلوبُ تعامل، وطريقة تفاعل، وأخلاقيات ومعاملات.
ما نفعُ الناس بحسن عبادة المسلم، والتزامه بأداءِ صلاته، وهو لا يُحسن تعامله معهم، ولا يقوم على خدمتهم، ولا يتلطَّفُ في أسلوبه معهم، وهم في حاجةٍ إليه؟! هذا يذكرنا بقصة المرأتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ الأولى قوَّامةٌ صوَّامةٌ لكنها تؤذي جيرانها، والثانية تقوم بالواجبات المفروضة وتحسن إلى جيرانها، فقال: الأولى في النار، والثانية في الجنة، فلم يشفع للأولى كثرة تعبدها وهي لا تحسن معاملة الناس، ولم يؤخذ على الثانيةِ في أمر أداء العبادة المفروضة فقط لإحسانها على الناس، وهذا معقل الأمر كله: أن أثر الدين إن لم يُر في الواقع فليس محمودًا، فالدين منهجُ حياة، وليس حياةُ مسجد.
"لا أحد مثل جابر"، عبارة يتمناها كل عاقلٍ سيتركُ عمله بعد فترةٍ ما، فيقال عنه "لا أحد مثل فلان" فمن لا يتمنى أن تقال فيه هذه العبارة المحمودة؛ حيث لا يرى موظفيه أحسن منه بعد أن ترك المسؤولية بعد سنوات وقد تصدَّر بحسن تعامله مع موظفيه المكانة العالية في قلوبهم فجاءَ من جاء بعده لكنه لم يستطع أن يفوقه مكانة.. فليتَ كل مسؤولٍ مثل جابر ليقال عنه بعد سنين "لا أحد مثل جابر"، وحُقَّ لجابر أن أُكرِّمهُ بهذه المقالةِ وأنا لا أعرفُ من هو، إنَّما الأهم أن يترك في نفوس موظفيه أثرًا حميدًا يذكرونه به بعد سنين من تقاعده.