الحب المؤذي

 

نور بنت محمد الشحرية

 

يولد الإنسان وتكلأه رعاية الله محيطا إياه بمن يسخرهم للعناية به، ومنذ أن يبدأ أولى خطواته باللعب حول فناء المنزل حين يكمل الخامسة من عمره مبتعدًا عمن يرعاه لدقائق، إلى أن يبدأ بالتدرج في مراحل التعليم المختلفة، وبين كل محطة عمرية وأخرى تضاف له صداقات، وترحل أخرى، وبين تلك المحطات والعلاقات الإنسانية المختلفة، هناك من تجمعهم المواقف والبعض الصدف والأغلب تجمعهم الحياة بين مدها وجزرها، ولكلٍ أثره المختلف الذي يبقى فينا سلبا أو إيجابا، في قلب وفكر كل شخص، مهما مرَّت عليه من سنوات العمر وتعاقبت عليه أحوالها.

كل شعور يرافقك من كل علاقة إنسانية هو بمثابة الدرس الذي تعلمته منها، وعمق الأثر يقاس بردة الفعل حينها، واستمرارية نفس المشاعر المتولدة لحظة ردة الفعل عند كل ذكرى تعصف بالإنسان عن ذلك الشخص أو ذات الموقف، كثير هم العابرون في حياة كل شخص، أولئك الذين لا يأبه لهم أحد، يبقى فقط من تشبثت به الذاكرة التي كثيرا ما تفرغ بعض مما بها، لتستطيع استيعاب الآتي أو لتخفف عن حملها تراكمات تعكر صفوها ونقاءها، فالبعض في ذاكرتك وقلبك تتمنى أن لو لم تجمعك به حتى الصدف، والبعض مجرد لحظات غيابه تعد بالنسبة لك "خسارة لا خسارة بعدها".

وأرى أنه من الظلم والغبن أن تكون ممتنًا لمن أهداك أوقاتا جميلة برفقته، وأطرب أذنيك بجميل ثنائه وكلمات مديحه، لأنك تراه قد عزز من ثقتك بنفسك، تلك الثقة التي تصنع منك في كل مجالات الحياة محاربا شرسا، لا يرضى التراجع والتقهقر للوراء، في حين لا تكون ممتناً لمن أهدى إليك مساوئك ونواقص همتك، ولمن قسى عليك ولولا قسوته لما استطعت أن تستوعب أن العالم من حولك لا يمضي على وتيرة واحدة، وأنه عليك أن تتسلح بالقوة الذاتية لمقاومة عوامل البناء والهدم المتعددة.

لا أحد يستطيع إصلاح خلل ما، أو تقويم أحد ما أو حتى تحسين نفسه، وهو لا يعرف للخلل مكمن، قد تعمى عين الحب عن مساوئك وتبصرها عين البغض، ولولا تلك العين لما انتبهت لنفسك تهذيبا وتجنبا لما يشينها، تلك المحاولات بالإصلاح تسد نوافذ الانتقاد على المبغضين وتجعل منك مالا يرجونه متصيدو الهفوات والمساوئ، ليرضوا أنفسهم الخانعة، وقلوبهم الجلفة، وطباعهم الفظة، بأن السوء ليس فيهم حصرا ولكنه في الجميع بالسوية.

المعدن يتشكل بقوة الضغط عليه ومن ثم يصقل لينشئ منه سطح مسطح خالٍ من العيوب، هكذا هم أغلب المميزين الرائعون الذين يحاولون تقديم أفضل ما لديهم كأفراد لأسرهم ومجتمعهم ووطنهم، صقلتهم الحياة حتى لمعوا.

حب لن يصنع منك شخصا أفضل مما كنت عليه بالأمس، ولم ينأى بك عما يشينك ويسبب لك هوانا في نفسك، وتخاذلا عن علو الهمم، لا يعد حباً بل وبالا، كالأم تشفق على صغيرها من مرارة الدواء متجاهلة أثر نخر المرض في جسده، وقس على ذلك كافة التصرفات المدمرة للأشخاص الذين يحبونهم، سببها مشاعر جياشة قادت أصحابها للهلاك "حياة يقودها العقل أفضل من حياة يقودها القلب" (أحبب من شئت فإنك مفارقه) ولأن الأقدار مفرقة، قد تكون القسوة من أحب الناس إليك وأكثر من تتعلق به حقيقتها حب عارم، وخوف عليك من غدٍ قد لا يكون بجوارك ليحميك ويرشدك، ويهمه ألا تكون جزوعا بل صبورا فطنا لبيبا، لا تركن لأحد سوى خالقك (عز المؤمن استغناؤه عن الناس) وحتى البعد أحيانا هو قمة الحب.

وليس كل من قدم نصحه، وأبدى لك مشاعر الحب وعظيم الرعاية لمصالحك صادق معك، تذكر:

وما كل من تهواه يهواك قلبه // ولا كل من صافيته لك قد صفا

لك حدس اتبعه، لك عين راقب بها، لك أذن اسمع بها فقد خلقت للسمع وليس لترى بها الناس فيكون تفكيرك وقلبك وعاءان لكل أفاك "إن الله يحب المؤمن الفطن".

ومهما عصفت بك المنون، وخيب لك رجاء، وتناوبت عليك الخطوب، أصمد واحمد الله أن فضلك على كثير من عباده، أن وسع لك النفس وأعطاك من عزم الإرادة للتحمل "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".

وعندما ترفع أكفك بالدعاء لكل من له فضل عليك، لتكون تلك الشخصية الفذة فيك بعد الله -جل جلاله- فإنه من المفارقة أن الدعوة تشمل كل من آذاك يومًا، فكن في قلبك متسامحاً إن لم تكن ممتنا لهم، وأرح قلبك من مشاعر السوء وربما الكراهية حين تتذكرهم وتتذكر أوقاتك معهم.

وأنت تحصد حصاد صبرك وتبتهج لانتصاراتك ردد: "ولا تجزع لحادثة الليالي // فما لحوادث الدنيا بقاء".

وانتظر فرحاً كبيرًا قادمًا، ومزيدا من فضل في نفسك، فما تلك الخطوب إلا سلمًا للصعود والارتقاء في دار الفناء ومن ثم دار البقاء.

تعليق عبر الفيس بوك