أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
مع الانشغالات التي تكثر مع الأيام قد لا ننتبه كثيرًا للنعم المحيطة بنا، ولا نُدرك حجم التحديات التي واجهت البشرية لتصل إلى الرفاه الذي ننعم به، فعملية إعداد الطعام مثلا كانت عملية شاقة للغاية؛ فالإنسان قديمًا كان عليه أن يصيد فريسته أولًا، ثم يسلخها ويقطع اللحم ويجمع الحطب ومن ثم يوقد النار ويبدأ طبخ الطعام، وبعد أن يجهز الطعام عليه أن يتناوله ولا يبقي منه شيئًا؛ إذ لم تكن تتوافر وسائل فاعلة لحفظ الطعام.
ومع مرور الزمن تعرف الإنسان على طرق أولية يمكنه حفظ الطعام لبعض الوقت، لكن أحد التحديات التي ظلت قائمة إلى قبل بضعة قرون هو إيجاد وسيلة سهلة لإشعال النار؛ إذ كان إشعالها إنما يتم اعتمادًا على الاحتكاك القائم بين بعض أصناف الأحجار أو بينها وبين الخشب الجاف، وهي عملية شاقة وتحتاج إلى مهارات خاصة، ولكي تدرك حجم الصعوبات والجهد، حاول القيام بإشعال النار باستعمال الطريقة المذكورة، وستجد أنك تحتاج إلى مهارات فائقة للقيام بذلك، ولهذا فإنَّ عملية استلاف شعلة النار من الجيران كانت أمرًا متعارفًا عليه في الماضي.
وبعد ذلك، تم اكتشاف طرق أيسر لإشعال النَّار، وكانت تعتمد على توفر الزجاج والشمس؛ إذ يتم وضع الزجاج على بعض الأجسام القابلة للاشتعال ومن ثم توجيه الزجاج إلى ناحية الشمس، إلّا أن الزجاج لم يكن متوفرًا بسهولة في السابق، كما إن هذه الطريقة تنجح في النهار، ولا يمكن استخدامها في الليل.
أما الوسائل الحديثة التي نستخدمها لإشعال النار، فلقد لعبت الصدفة دورًا مهمًا في ذلك؛ ففي عام 1669م، كان هناك رجل يدعى براندت يحاول تحقيق الحلم القديم وهو تحويل المواد إلى ذهب، وخطرت في ذهنه فكرة مجنونة، وهي أنَّه ربما يمكنه الحصول على الذهب من البول، وذلك لأنَّ لون البول أصفر كالذهب، فقام بغلي البول بكميات كبيرة حتى نتج عنه مادة حمراء كثيفة وسائلة وبقايا مواد سوداء صلبة، فقام بخلط الاثنين معًا وتسخينهما مرة أخرى ونتج عن ذلك مادة شمعية تفوح منها رائحة شبيه برائحة الثوم وتتوهج بلون قرمزي، لكن المهم في الأمر أن المادة كانت شديدة الاشتعال وينتج عند احتراقها ألق أبيض اللون، أطلق عليها براندت اسم "الفوسفور".
وفي عام 1831م تم استخدام هذا الفوسفور في عود الثقاب، ونتج عن ذلك انتشار مرض عرف بالفك الفوسفوري؛ حيث إن الفوسفور المستخدم كان يؤدي الى تبخر مواد تؤدي الى تدمير عظام الفك وتسوس الأسنان، واحتاج الأمر إلى حوالي 15 سنة من البحث العلمي ليتم إنتاج أول عود ثقاب آمن؛ إذ تم استبدال الفوسفور الأبيض بالأحمر الذي يعد آمنًا، ولا يسبب أي ضرر معتد به، وما زال هذا الصنف من أعواد الثقاب يتم استخدامها، فلقد كانت أولى الأدوات التي لا تحتاج إلى جهد كبير لإشعال النار دون أضرار تذكر.
أما الفوسفور الأبيض، فقد تبين أنه ذو خطورة كبيرة ومنع من استخدامه في أعواد الثقاب؛ بل اعتبر من الأسلحة الكيميائية المحرمة نظرًا للأضرار البالغة التي تنتج من استخدمه.
وبعد ذلك، ومع تطور العلوم وفهمنا لآلية وطبيعة النار، وأن النار يمكن إشعالها بمواد نفطية؛ فالمواد النفطية وقود مناسب لإشعالها تم استخدام النفط ومن ثم تم استخدام الغاز المخصص للطبخ.
والغازات عمومًا لم يتم الكشف عنها، إلّا في القرن السابع عشر الميلادي، ولذا فكلمة "غاز" كلمة حديثة في تاريخ البشرية، ولم تكن موجودة قبل القرن السابع عشر الميلادي، فنحن لم نتعرف على الغازات إلا في ذلك القرن.
ختامًا.. تذكر وأنت تشعل عود الثقاب أو تشعل طباخك، أن البشرية لم تصل إلى هذا التطور الكبير إلّا عبر جهد كبير ومخاض عسير، فخطوات إعداد وجبة الطعام التي تتناولها بسهولة ويسر بدءًا من إشعال النار؛ هي نتيجة تراكم الخبرات البشرية عبر قرون من الزمن.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس