رسالة أخرى.. إليك!

 

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

….وها أنا العجوز اليتيمة المُتكئة على قلمها، أكتب لك رسالة أخرى؛ فرغم كبر سني وتجاعيد صبري وتقرحات قلبي؛ إلاّ أنه لا يزال يصدمني غيابك، فكلما تقدّم بي العمر أحسست أنني في أشد حاجتي إليك، وأدركت أنَّه ليس الأطفال ولا المراهقون وحدهم بحاجة آبائهم؛ بل إنّ من غزى رأسه الشيب وأثخنت الجراح قلبه أشد حاجة منهم، أعلم أنّ الردى قد طواك بعيدا عني؛ لكنّي المسكونة بالذاكرة والمكان رهينة التفاصيل.   

مالت ثوابتي برحيلك، لم أعد تلك الفراشة التي كانت تحوم حولك وتفتعل شتىَّ أصناف الافتعال لتحظى وحدها بقلبك وجُلّ اهتمامك؛ فقد تسللت إليَّ عوامل التعرية، لله ما أجد منها وما أحاذر، فجفت مقلتيّ وهرمت روحي ومقتني الحبّ.  

لم يزدني البعد منك إلاّ قربًا، فمهما اعتاد رمضان أن يأتي دونك إلاّ أنّ طيفك دائمًا يأتي معه؛ فألم الرحيل يتجدد بقدومه، وألتمس عودتك فيه حلماً أو يقظة، لله فجر ذو بأس وقسوة، حلّ ثقيلا وغادر مليئا بما حمل، وتركني خاوية على عروشي؛ نكبني الثالث والعشرون من رمضان بنكبته وفرّ هاربا كلصّ محترف، وظلّت الأيام منتكسة متشرذمة غير مهمة.       

 

إليك أكتب مرة أخرى لأخبرك أن الشهر أتى كعادته مُلوّحا بهلاله الرشيق، كذراعين مفتوحين مبشرين بالمغفرة والاحتواء، ويلوّحان لي بتجدّد الذكرى فينكآني وتلتهمني نيران الفقد.       

على قيد الوفاء ها أنا، تحتل حروفي مكانة أفضل الصدقات؛ هي لك جارية إلى روحك الطاهرة، تتردّى راكعة على ثراك الطاهر، هامسة "كلّ عام وأنت الساكن روحي" فالطريق الوعر بيننا لم ينجح في اجتثاثك مني؛ بل خلق مني أنثى صلبة متصالحة مع الفراق، سجلّت شهادة وفاتك ميلاد قوتها.  

أكتب إليك؛ فرسالتي بمثابة السفر إليك، بممارستها أدحر بعض اليتم، لا أنكر حينها أنّ رحيلك صهرني، وشتّت جزيئاتي المتماسكة وأبدع في جمع الشوائب فيني؛ لكنّ ما ورثته من عزمك نكزني، فاجتهدت في صهر الألم وابتسمت بزهد للحياة؛ فاتخذت من الصبر صبرًا؛ ومن التجلّد مجابهة وبأساً.

هل تعلم  أنّ نبتة " الثوور" التي زرعها فراقك قد كبرت، تفرعت جذورها المكينة فيني وتوغلّت، هل تعلم أنها في مثل هذا اليوم طوت العام الثامن عشر من عمرها، وهي وفيرة الأشواك تجود بمحصولها الفريد كل موسم؟ 

تولى الزمن مهمة تحديث إقامتك في برزخي طيلة الفصول الأربعة، ومضت الأيام بما حملت عدا "أنت" لم تمض مازلت باقيا، فقد لبىّ الجميع نداء الرحيل، وأخذوا تذاكرهم مُغادرين، وبقيت العائد الوحيد.

 

أبعث لك رسالة لن تصلك، تأوهت حروفها وتاهت عن مخارجها، عبثت بها عواصف الغياب،  واتخذ الصدق فيها عاطفة ومآباً، يتهادى مع الشوق عذوبة ترانيم الوفاء.    

عندما نكتب رسالة وندرك أن المرسل إليه لن يقرأها، ولن يصلنا منه جواب؛ فالسؤال الملّح: لِمَ الكتابة؟ سألت نفسي هذا السؤال، لكنّ وجدت نفسي أكتب، ربما هي وصفة جرعة مهدئة أو تفريغ محتوى.    

 

المفردات:

 

الثوور: شجرة شوكية تنمو في المنحدرات التابعة للتلال الملاصقة للسفوح الجبلية في ظفار، تستخدم في بناء حظائر الحيوانات وأسوار وأبواب المنازل قديمًا، وهي شائكة يصعب لمسها أو اختراقها.