الاحتياطي الغذائي.. ضرورة أم ترف؟!

 

خليل بن عبدالله الخنجي **

 

مرَّ على تاريخ عُمان العديد من الأحداث؛ منها انقطاع إمدادات السلع الغذائية الأساسية التي يحتاجها سكان عُمان، واشتدت تلك المعاناة مع حدوث جفاف أو مجاعات أو حروب داخلية أو خارجية في الدول المصدرة للمواد الغذائية، خاصة المواد الأساسية مثل الأرز والقمح والطحين والسكر والقهوة وبقية المواد التي تهم الإنسان، وقد عانت عُمان والعالم من نشوب الحرب العالمية الثانية التي بدأت شرارتها في 1939 واستمرت حتى نهاية 1945؛ حيث توقفت كل الإمدادات إلى الموانئ العُمانية التي تعتمد عليها البلاد لاستيراد السلع، ولم يكن لديها بديل آخر عن الاستيراد البحري، بسبب أن عُمان محاطة بتضاريس وعرة مع أراضي اليمن والحجاز وإمارات ساحل عُمان التي كانت تفتقر بدورها لذات الأسباب.

وخلال الحرب العالمية الثانية فُرض على سكان عُمان ما يسمى بـ"الكنترول"، بحيث تُدير الحكومة توزيع المواد الغذائية أسوةً بالدول الاشتراكية، إذ تُصرف كمية معينة لكل أسرة اعتمادًا على عدد أفراد الأسرة، وكانت السلع محدودة مثل الأرز والقمح والقهوة والسكر فقط. وتلك الحرب عانى خلال سنواتها الستة كل سكان المنطقة؛ بل كثير من دول العالم التي تفتقر إلى أدنى نسبة من أساسيات الحياة. أما عُمان فكان لديها بعض من الأغذية المحلية في تلك الفترة مثل الأسماك والمواشي والدواجن والبيض بالنسبة للبروتين، والبر والقمح والتمر بالنسبة للكربوهيدرات، وبعض الخضراوات والفواكه الموسمية بالنسبة للألياف، أما بالنسبة للأرز والقهوة والسكر فقد كانت تعتمد على استيرادها، وذلك لصعوبة زراعتها في الأرض العُمانية بسبب الطقس والموارد المائية، إضافة إلى المعلبات والأغذية المحفوظة والأدوية التي يحتاجها الإنسان وضروريات الأطفال؛ لذلك عانى سكان عُمان كثيرًا جراء هذا الكنترول بسبب النقص الحاد في السلع وتقنين توزيعه على الولايات الستين، والتي يتم نقل المواد الغذائية إليها من خلال قوافل الجِمال التي كانت تحمل المنتجات الزراعية من ولايات الداخلية إلى الولايات المطلة على بحر عُمان وبحر العرب.

وفي عام 1980 أنشئت الهيئة العامة للمخازن والاحتياطي الغذائي التي كانت من المؤسسات النادرة على مستوى دول الخليج في ذلك الوقت، بناءً على المرسوم السلطاني رقم 62/ 1980 بسبب موجة الجفاف التي تعرضت لها الدول المصدرة للأرز والقمح؛ حيث صدر قرار حكومي بإنشاء مخازن لعدد من المواد الأساسية التسعة وعلى رأسها الأرز؛ لتلبية احتياجات السكان في الأزمات المختلفة. وقبل ذلك وفي عام 1977، اجتمع تجار مسقط ومطرح لتأسيس شركة المطاحن العُمانية بالقرب من ميناء السلطان قابوس، وما لبثت أن صدرت الأوامر السامية بمشاركة الحكومة في هذا المشروع تأمينًا للاحتياطي الغذائي. بعد ذلك تسابقت الشركات المحلية في تأسيس مشاريع مختلفة مثل مزارع الدواجن وبيض المائدة والمخابز اليدوية والأوتماتيكية ومصانع الألبان والبسكويت وزيوت الطبخ إلى آخره من الصناعات الغذائية التي أقيمت لأول مرة.

وتكررت أزمات نقص الوارد من السلع الأساسية وارتفاع الأسعار بسبب ارتفاعها من المصدر لمجموعة من الأسباب منها الحروب والجفاف وارتفاع أسعار النقل البحري والتضخم وآخرها في نهاية عام 2007 حتى بداية 2008؛ حيث عكفت لجان غرفة تجارة وصناعة عُمان ممثلة في لجنة الأمن الغذائي التي كان يترأسها رئيس الغرفة؛ وذلك للأهمية، ولمعرفة أسباب ارتفاع الأسعار للمنتجات المحلية من أجل تذليل الصعوبات وخفض المصاريف عليها وتسهيل التصاريح الحكومية.

في تلك الأجواء التصاعدية للأسعار والخوف من نقص المواد أتت فكرة تأسيس شركة خاصة للاستثمار في الزراعة الخارجية والتصنيع الزراعي، وبناءً على اللقاء الذي جمع صاحب السُّمو السيد نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء مع رئيس الغرفة- آنذاك- ورجال الأعمال المرافقين له أثناء زيارة صاحب السمو لإيران. وأعقب ذلك اللقاء المهم عقد اجتماعات للتركيز على القضايا التي تتطلب تضافر الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص؛ حيث مثل الغرفة المهندس صالح الشنفري نائب رئيس لجنة الأمن الغذائي، والذي اقترح أن يتم دعم ومباركة إنشاء كيان استثماري معني بالزراعة والأمن الغذائي؛ بهدف إحلال الواردات الزراعية والمساهمة في التنويع الاقتصادي، وتنمية المحافظات والاستثمار الأمثل للموارد الطبيعية، واستغلال الميزة النسبية للسلطنة وموقعها المميز، وخلق فرص عمل للمواطنين، إضافة إلى رفع القيمة المحلية المضافة للمنتجات المحلية؛ بما يمكنها من المنافسة إقليميًا وعالميًا. وقد لاقى المقترح دعمًا قويًا من الحكومة؛ حيث جرى تكليف ممثل الغرفة بإعداد التصور الرئيسي، وقد حظيت هذه المبادرة التي أطلقتها الغرفة باستحسان السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وتنبت الحكومة المبادرة، وعلى ذلك صدر التوجيه بتكليف الجهات ذات الاختصاص للعمل على إعداد الدراسات اللازمة لتحقيق ذلك.

وساهمت الغرفة في فريق العمل المشرف على الدراسة وتم تكليف بيت خبرة عالمي خلص إلى توصيات مهمة، منها ضرورة تأسيس الشركة المقترحة. وبعد أن تمَّ اعتماد الدراسة تم الإعلان عن قيام "الشركة العُمانية القابضة للأمن الغذائي" بمهامها؛ حيث تم بناء فريق العمل وإعداد استراتيجية الشركة للعشر سنوات التالية، واعتماد مشروعاتها الأساسية والداعمة. وطرحت الشركة أول منتجاتها في الأسواق وهي العلامة التجارية المميزة "مزون للألبان" تلتها "البشائر للحوم" ومنتجات "ألبان الإبل"، إضافة إلى إعادة هيكلة الشركات التي تم تحويلها لاحقًا إلى "الشركة العُمانية للاستثمار الغذائي"، وبذلك ساهمت الشركة بعد تسع سنوات من تأسيسها في توفير جزء من الاحتياطي العام للأمن الغذائي، ولن يكتمل ذلك إلا بالتوجه للاستثمار في التخزين الاستراتيجي للمواد الغذائية الأساسية مثل الأرز والقمح والبقوليات والقهوة والسكر وزيت الطبخ.

نخلص مما سبق إلى أن الاحتياطي الغذائي ليس ترفًا، وإنما ضرورة يجب الالتفات إليها بطريقة علمية مدعومة من الحكومة، لاكتمال منظومة الأمن الغذائي بكل طرقها الحديثة، ولن يتأتى ذلك إلا بتأمين مناطق تخزين استراتيجية لصوامع الغلال في جميع الموانئ العُمانية عُمان بأسعار إيجار رمزية ودعم حقيقي لكل الصناعات التحويلية الغذائية الأساسية، وبذلك لا لن تكون هناك ضرورة للحكومة لإنشاء مخازن خاصة بها، إذا ما تم تنظيم وربط تخزين المواد الغذائية الخاصة بالقطاع الخاص بشبكة معلومات تسهم في معرفة الكميات في جميع الأوقات، خاصة عند نشوء أي أحداث خارجية في العالم.

** الرئيس الأسبق لغرفة تجارة وصناعة عُمان