نحو تواصل ثقافي حضاري بين الشعوب.. "وكالة الجاموس" أنموذجًا

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

لا يُذكر تاريخ مصر إلا وتُذكر الوكالات التجارية القديمة التي أنشئ معظمها في عهد دولة المماليك (1250م- 1517م) مثل وكالة الغوري ووكالة قايتباي ووكالة تغري بردي، التي ربما تُنسب لأحد مؤرخي مصر في العهد المملوكي.

ومن أشهر الوكالات التي ظلت إلى يومنا هذا "وكالة البلح" التي أنشئ سوقها سنة 1880، وتقع الوكالة بين حي بولاق أبو العلا الشعبي وحي الزمالك أحد أحياء القاهرة الراقية. وسُمّيت بهذا الاسم لأنها كانت مقتصرة على بيع كل أنواع البلح وبجانبه أقمشة الكتان التي تأتي من صعيد مصر. وكانت التجارة في عهد المماليك تخترق مصر والشام في طريقها إلى أوروبا فكانت تُجبى المكوس والضرائب على قوافل التجارة. ونشطت لذلك التجارة بالقاهرة وحركة البيع والشراء بأسواقها واستلزم هذا النشاط التجاري بناء الحانات والفنادق والأسواق؛ ففي الحانات والفنادق ينزل التجار بضائعهم ودوابهم ويخزنون سلعهم في المخازن، ويفد عليهم التجار للأسواق لشراء حاجياتهم لعرضها في حوانيتهم.

وجميع الوكالات التي ظهرت في القاهرة- وأشرنا إليها آنفًا- كانت وكالات تجارية بحتة ما عدا "وكالة الجاموس" التي هي موضوع مقالنا هذا، فقد كانت ذات أغراض مختلفة ومتعددة. وتأسست وكالة الجاموس في 27 مارس 1626 في مصر، والتي لها الفضل بدون منازع في الحفاظ على الموروث الإباضي المخطوط إلى يومنا هذا، حيث إنها وقفٌ إباضي على الطلبة الإباضيين لدول أفريقيا الشمالية. ويقصد بطلبة أفريقيا الشمالية هم الطلبة القادمون من جربة بتونس ووادي ميزاب بالجزائر وجبل جزيرة نفوسة بليبيا. وسميت بالوكالة لأنها تشتغل كوكالة تجارية تقدم خدماتها لطلبة العلم، وهذه طريقة كانت تستخدم كثيرًا في العالم الإسلامي لتشجيع دور التعليم وغيرها. يشار إلى أن مؤسس الوقف الأول سنة 1494م هو الشيخ سعيد بن عبدالله الجادودي، وتوجد وثائق تثبت تحركات التجار النفوسيين في الكثير من الأصقاع كأدغال افريقيا حتى إسطنبول وجزر كريت وعنابة في الجزائر والممالك الإيطالية. وازدهرت الوكالة على يد الحاج عبدالعزيز بحار من قرية  جربة التونسية، الذي ينتمي إلى أسرة كانت ترتاد التجارة وهو الذي سماها بوكالة الجاموس. ويقال إن سبب تسميتها بوكالة الجاموس أن جلد الجاموس كان أحد السلع والبضائع التي كانت تتاجر فيها هذه الوكالة. ونجد هذا الاسم مقترنًا بتحرير الكثير من المخطوطات وبطلبة العلم الملتحقين بالأزهر في عز ازدهاره. والواضح أن الاسمين الذين استمرت تعرف بهما الوكالة من تاريخ تأسيسها إلى أن أغلقت ثم تهدمت هما "وكالة الجاموس" و"وكالة البحار". ثم عرفت فيما بعد وفي وقت متأخر بوكالة "السادة الغوابية". والذي أطلق الاسم الأخير عليها هو الحاج أحمد الجملي بعد أن قام بإجراء توسعات في الوكالة. وتقع الوكالة في الحي الطولوني قرب جامع أحمد بن طولون، وكنتُ أنوي زيارة أطلال هذه الوكالة، إلا أن أحد الإخوة المصريين المجاورين للوكالة قال إن الوكالة "هُدمت وبُنيت في مكانها مساكن بتوجيهات من سوزان مبارك (أرملة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك)"، وبعد الاتصال بالأستاذ أحمد مصلح مهنّي التونسي الذي يعمل في السلطنة صاحب أطروحة "الوقف الجربي في مصر.. وكالة الجاموس أنموذجًا" صحّح المعلومة وأكد أنَّ إطلال الوكالة ما زالت موجودة ووعدنا بإرسال صورة لها. وتشير بعض المصادر إلى أن بعض تجار الشمال الأفريقي ممن كانت لهم صلة بهذه الوكالة سيطروا على تجارة الزيت والزيتون والقطن وجلود الحيوانات ومنها الجاموس وبعض المنتجات الأخرى في كل من القاهرة والإسكندرية لعدة عقود. وتشير المصادر إلى أن الوكالة تحولت إلى وقف وسخّرت جهودها لخدمة طلاب العلم الدارسين في الأزهر من الشمال الأفريقي (جربة- وادي ميزاب- جبل نفوسة) وسكناهم والإنفاق عليهم وإقامة حلقات العلم وتزويد الوقف بمكتبة تضم مختلف أنواع الكتب والمراجع. ولعلَّ وجود رواق أو وقف للطلبة المغاربة من الدارسين في الأزهر هو ما حدا بأصحاب فكرة الوقف أن يكون كذلك لطلاب المناطق التي أشرنا إليها وقف يتولى شؤونهم ويرعى مصالحهم.

ومن العلماء الذين كان لهم دور بارز في نسخ المخطوطات والتدريس في حلقات العلم التي كانت تقام في وكالة الجاموس الشيخ سالم بن يعقوب أحد علماء جربة التونسية الذي قرر السفر إلى مصر في شهر أكتوبر من سنة 1933؛ ليواصل تعليمه في الأزهر. ومن العلماء الآخرين الذين كان لهم دور كذلك في نسخ المخطوطات والتدريس في هذه الوكالة الشيخ إبراهيم أطفيش الجزائري الذي عمل في هيئة الوثائق المصرية ناسخًا للمخطوطات بعد إغلاق وكالة الجاموس. وتتضح صلة عُمان والعُمانيين بهذه الوكالة منذ زمن بعيد من خلال مجموعة من العناصر والمعطيات التي سوف نسردها لتأكيد مساهمة العمانيين في هذه الوكالة، وإن كانت بطرق ووسائل غير مباشرة. وفي هذا السياق، نود أن نشير إلى أنه كانت تُدرّس في حلقات العلم بهذه الوكالة بعض الكتب الدينية لعدد من العلماء الجزائريين والعمانيين. كما قام عدد من سلاطين زنجبار بالتبرع لنسخ عدد من المخطوطات الدينية لعلماء عمانيين وجزائريين، ووقفها على طلاب العلم الدارسين في الأزهر والقاطنين بهذه الوكالة. ودرس عدد من الطلبة العمانيين من الرعيل الأول الذين ذهبوا للدراسة في الأزهر في حلقات هذه الوكالة واستفادوا من مكتبتها في أيامها الأخيرة قبل أن تغلق وتهدم بعد ذلك. وقد نما إلى علمي أن سماحة الشيخ المفتي العام للسلطنة كان له دور في إنقاذ الكثير من الكتب والمخطوطات التي كانت في هذه الوكالة. ولا ندري متى تمَّ ذلك، وما هي الآلية أو الطريقة التي تم بها إنقاذ هذه الكتب والمخطوطات، وأين ذهبت هذه الكنوز المعرفية بعد إنقاذها. وهذا ما سنحاول البحث عنه والإجابة عليه في قادم الأيام.

** كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك