متلازمة داون.. والخيرُ في المجتمع

 

د. صالح الفهدي

غَمَرني الإِحساسُ بالفرح الداخلي، وأنا أُشاركُ الجمعية العمانية لمتلازمة داون احتفاليتها العالمية لمتلازمة دوان، فقد كانَ للاحتفالِ لونٌ آخر، وإحساسٌ من طبعٍ فريد؛ فالمجموعات والأَفراد الذين تساوقوا إلى موقع الاحتفالية رمزوا إلى العطاء الإنساني الذي لا يقف عند حدود، وليس ثمَّة معيقٍ لتقديم الخير فكل الطرق مشروعة للخير، "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (115/البقرة).

فِرقٌ من البشرِ مختلفةِ الاهتمامات والهوايات لم يجتمعوا لهدفٍ عبثيٍّ فارغ، وإنَّما لهدفٍ إنساني راقٍ، فهناك فريق للسيارات ذات الدفع الرباعي أطلقوا عليه (Z71)، أهدافهُ إنسانية بحتة لمساعدة النَّاس في مختلفِ فعالياتهم الخيرية، والوقوف معهم في الملمَّات كمثل أدوارهِ للتخفيف من أضرار(إعصار شاهين)، شبابٌ يظنَّهم من لا يعرفُ عنهم أنَّهم تجمَّعوا من أجلِ المُباهاةِ بسياراتهم، وتضييع أوقاتهم، لكنَّهم في الحقيقة قد اجتمعوا لأهداف إنسانية عاليةِ المقاصد، وفي جانبٍ آخر كان هناك فريقُ الطيور وهم مجموعةٌ من الأفراد جمعتهم هوايتهم لتربية الطيور الجميلة كالببغاء، فلبسوا قمصاناً موحَّدةً تحمل هدفهم السَّامي "بطيورنا نرسم الابتسامة"، تنادوا من كلِّ جانبٍ في المناسبات الخيرية ليرسموا الابتسامات في وجوه الناس، وليشاركوا الآخرين ما يشعرون به من سعادةٍ مع هذه الطيور الجميلة ذات الألوان المبهرة، والمتفاعلةِ- في محاكاتها- للأصوات البشرية، وفي كلِّ مواقع المُناسبة ينتشرُ أعضاء فريق "مهجتي" الخيري بقيادةِ رئيسة الفريق مروج بنت صالح المسكرية ذات الروح القيادية، لينظِّموا الفعالية، ويضمنوا نجاحها على أحسنِ وجه، ثم هناكَ شابٌ اسمهُ محمد العبري جاءَ من ولاية الحمراء وقد أحضر ألعاب "السكوتر" ليُسعد الأطفال.

وعلى جانب الطريق فرشت "أُم ناصر" فُرشها لتخبز للمشاركين الخبز العماني، فتوزِّع عليهم بابتسامتها التي لا تُفارق وجهها السعادة، قبل أن يذوقوا طعم الخبز العُماني من يديها، يجاورها شبابٌ جاؤوا من مطرح بـ"آيس كريم حارتنا" وهم يحملون طموحاتهم بالتوسع في عملهم، مدركين أنَّه سيكون عبر بوابة الخير، ولم يكن من الغريب أن يجتمع المحبُّون للخير في مختلف اهتماماتهم ونواياهم المخلصة في مزرعةٍ اسمها "عطاءُ الخير" للشيخ صالح بن سعيد المسكري، ليقول لي صاحبها: اليومَ قد تحقق معنى اسمها الذي تشرَّفتُ شخصياً بتسميته منذُ سنوات، وما ذاك إلا لحبِّ هذا الرجل الأصيل المعروف عنه للخير والعطاء والإحسان.

هذه بعضُ الأَمثلة التي كنتُ أتفاعل معها بالإِعجابِ والانبهارِ وأنا أسيرُ وسطَ جمعٍ غفير ومختلفٍ ولكنه مجتمعٌ لأجلِ هدفٍ واحدٍ هو إسعادُ الأطفال المصابين بمتلازمة داون، هؤلاءِ الأطفال يوصفون بأنهم من أحنِّ وأعطفِ البشر، وهم بهذه الصفات يضيفون سعادةً إلى أُسرهم، وإلى من يحيط بهم، ومتلازمة داون هي "اضطراب وراثي يسببه الانقسام غير الطبيعي في الخلايا مما يؤدي إلى زيادة النسخ الكلي أو الجزئي في الكروموسوم 21. وتسبب هذه المادة الوراثية الزائدة تغيرات النمو والملامح الجسدية التي تتسم بها متلازمة داون. (مايوكلينك).

اللَّافتُ في هذه الجمعية أنَّ رئيس وأعضاء مجلس الإدارة هم آباءٌ لأطفالٍ مُصابين بمتلازمةِ داون، وهذا أمرٌ فريد، ولكنه كما يقول أحمد شوقي "إِنَّ المَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا"، بيد أن التاريخ سيذكرُ هؤلاءِ الآباء المؤسسين، كما ذكر غيرهم في مشاريع إنسانية مختلفة، وقد أخذوا على أنفسهم عهداً بالاستمرارِ رغم ما يعتورُ طريقهم من عقباتٍ وصعوبات وعراقيل هي في الأَساس مالية، ندعو الحكومة الرشيدة ورجال الأعمال الموسرين لتيسيرها وتسهيلها، فقد نذروا أنفسهم للاهتمام بهذه الفئة وقد أغنوا الحكومة بهذه الوقفات عن أن تقوم بأي عملٍ وجهدٍ في هذا المجال، لكنهم يحتاجون لمؤازرتها ودعمها فهي المظلة الحانية للمجتمع من أجلِ أن تقوم الجمعية بدورها على أكمل وجهٍ لخدمةِ هذه الفئة من المجتمع.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمتي كالمطر، لا يُدرى الخير في أوله أم في آخره" (أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنهما) والاحتفالية كانت تجسيداً للحديث الشريف، فكأنما الجموعُ، والفرق والأفراد هم نبتُ مطرٍ في تلك المزرعة البهيجة التي أزهرت في يوم المناسبة عطاءً خيِّراً للمجتمع.

إن قيام جمعية خاصة لمتلازمةِ داون، ووقوف المجتمع إلى جانبها بكلِّ ما يستطيع تقديمه من خير وبذل، لهو مدعاةٌ لتغيير النظرة الاجتماعية إلى فئة متلازمة داون، من نظرةٍ ملؤها الشعور بالتذمر والحزن، إلى نظرةٍ تتوسَّم البركة والسعادة، يقول أحد رجال الأعمال الخليجيين بعد أن رزق ابناً مصاباً بمتلازمةِ داون: اتصلتُ بصديقٍ لي هو والدٌ لابن مصابٍ بمتلازمةِ داون، وأنا أشعرُ بحزنٍ شديدٍ، طالباً منه المُواساة، فقال لي حينها: سيكون هذا أسعد خبرٍ في حياتك، ولقد أدركتُ معنى هذا الكلام بعد سنواتٍ، حينما أدخل البيت مُرهقاً من العمل، فأجدُ ابني المصاب بمتلازمة داون وهو ينتظرني في الداخل كل يوم ليلتقيني بصدره الحنون، فيزيح عني كل تعبٍ وإرهاق اليوم كله.

خلاصةُ الكلام أختتمه بكلمةٍ لفرانك ستيفنز من مؤسسة متلازمة داون العالمية خاطب بها اللجنة الفرعية المعنية بالعمل والصحة والخدمات الإنسانية والتعليم في مجلس النواب الأمريكي قائلاً: "أنا رجل مصاب بمتلازمة داون.. وحياتي تستحق أن تُعاش". وأضاف: "إنَّ معظم الأشخاص الذين يعانون من متلازمة داون يعيشون حياة سعيدة وناجحة".

كلَّل الله جهود الجمعية بالتوفيق، وشكراً لكلِّ من قدَّم الخير والفضل لمستحقيه في هذا المجتمع الإنساني الراقي.