الاجتماعات الوهمية

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

من الظواهر السلبية المُنتشرة على نطاق واسع في الوزارات والهيئات الحكومية؛ بل وحتى بعض شركات القطاع الخاص، ظاهرة التَّهرب من مُقابلة المراجعين لتلك المؤسسات التي وجدت لخدمة النَّاس بدون مماطلة أو تسويف.

المُبرر الذي تجده على كل لسان هو أنَّ المسؤول الفلاني في اجتماع، فقد كانت الاجتماعات التي تستمر ساعات طويلة مرتبطة بكبار المسؤولين وصناع القرار كالوكلاء الذين يترأسون اللجان التي تنفذ السياسات وتطبق القرارات المعتمدة من الجهات العُليا. ومع مرور الأيام أصبحت الاجتماعات المزعومة حجة الجميع من الموظف الصغير الذي يعمل في الاستقبال أو الأرشيف إلى أعلى الهرم في المؤسسة؛ رئيس الوحدة. والسؤال المطروح ماذا حققت الاجتماعات وأعمال اللجان المشكلة من كبار المسؤولين طوال السنوات الماضية؟!

لا شك أنَّ بعض اللجان الجادة التي تناقش تحديات المؤسسات وتعمل على تذليل العقبات وتسهيل الإجراءات للمستفيدين من المواطنين، وتتحرى الصدق وتلتزم الأمانة عند منح الحقوق للمستحقين، جديرة بالتقدير والاحترام؛ لكونها تعتمد على قاعدة عريضة من آراء الأعضاء المشاركين في مثل تلك الاجتماعات وليس الرأي الفردي للوزير أو الوكيل فقط. لكن أكدت التجارب العملية، أن أعمال كثير من هذه اللجان تهدف إلى قتل الوقت والبعد عن إحراج المراجعين، وتنطلق في بعض الأحيان من مصالح أعضائها وتستمر لساعات طويلة تتجاوز الوقت المحدد والمعروف عالميًا للاجتماعات والذي يجب ألا يتجاوز الساعتين. أنا على يقين إذا ما تمَّ اختيار أعضاء هذه اللجان التي تتخذ قرارات مهمة تمس حياة المواطنين وحقوقهم من خلال معايير علمية وقبل ذلك كله الإخلاص والأمانة لله والوطن والسلطان؛ لاختفت التظلمات والاحتقان والتذمر بين أفراد المجتمع. كما إن هناك من المديرين والموظفين الذين يزعمون أنهم في اجتماعات لا تنتهي طوال أيام الأسبوع، لكي يتابعوا أنشطتهم الخاصة ويمارسوا هوايتهم مثل متابعة مواقع التواصل الاجتماعي والأخبار، وغير ذلك من الهوايات بعيدًا عن إزعاج الضيوف والمراجعين.

لقد ابتُلينا بمرض خبيث يُعشعش في معظم الوزارات الخدمية اسمه "الروتين" وتأخير تخليص إجراءات المراجعين، وهذا الوباء المستورد من الخارج والدخيل على السلطنة، قد استوطن في عقول الموظفين، فالجديد منهم يتعلم من القديم. ولا شك أن الضحية هو المراجع الذي قد يقطع مئات الكيلومترات من أجل إنهاء بعض المعاملات؛ فيُعاني من الخسائر المادية والنفسية بسبب التأخير في إنجاز الوثائق والأوراق التي يتطلب اعتمادها من الوزارات المختصة أيامًا أو أسابيع في أحايين كثيرة.

ومعظم الوزارات قد أغلقت أبوابها أمام المراجعين منذ بضع سنوات، واستحدثت ما يعرف بـ"دوائر المراجعين" التي هي عبارة عن بريد يستلم الرسائل وترجع هذه الطلبات والالتماسات في مُعظمها بتعليق موحد من الوزير أو الوكيل بعبارة معروفة مقدمًا "الاعتذار للمذكور أعلاه"!!

أتذكرُ موقفًا حدث لي شخصيًا في مُنتصف العقد الماضي عند ذهابي لأحد مكاتب أصحاب المعالي لحجز مُقابلة؛ إذ توجهت إلى دائرة المراجعين وقدمت الأوراق المطلوبة على أن يتم الرد خلال بضعة أيام من نفس الأسبوع. ولكن كانت المفاجأة بعد 7 أشهر عندما تلقيت اتصالا من منسق الوزير يقول إنَّ معاليه يعتذر عن المُقابلة لأنَّه مشغول. فقلت في نفسي ربما أكون محظوظًا بهذا الاعتذار؛ فهناك المئات من الناس الذين تم تجاهلهم بالمرة ولم يتم التواصل معهم.

أين نحن اليوم من الجيل العصامي الذي أخلص للوطن؛ فقد كان الموظف العام في العقود الأولى للنهضة العُمانية يعمل بجد وإخلاص لتسهيل وتخليص معاملات المواطنين على الرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمر بها السلطنة في ذلك الوقت؛ إذ يأتي المراجع من القرى والجبال البعيدة للدوائر الخدمية وتُقضى مطالبه وحاجاته على أكمل وجه، وذلك في نفس اليوم، بل وفي الساعات الأولى من الدوام الرسمي بدون تأخير أو ترحيله للرجوع في اليوم التالي، كما كان كبار المسؤولين في الدولة قد اعتادوا على فتح مكاتبهم للنَّاس لمناقشة مطالبهم والوقوف على احتياجاتهم مباشرة.

ومع مرور الأيام، تعقدت الإجراءات وتعددت وكثرت المستندات والوثائق المطلوبة لتكملة أو إنجاز أي معاملة، وعلى الرغم من التطورات التكنولوجية وما يعرف بالحكومة الإلكترونية التي لم تجد طريقها حتى الآن لجميع أفراد المجتمع، وذلك بسبب التحديات التي تواجه تلك التطبيقات المعقدة، لذا تجد رفوف الوزارات الخدمية وأرشفتها المختلفة مملوءة بالملفات والوثائق غير الضرورية التي تزداد بشكل سنوي طوال العقود الماضية، وتوقع من عدة جهات حكومية وتكون أقرب لاستمارة الاستبيان من كثرة الأختام والتوقيعات المطلوبة. ومن المفارقات العجيبة؛ ما نشرته قبل سنوات جريدة الخليج الإماراتية عن مُعاناه مواطن عُماني عمره فوق الستين سنة؛ وقد طلب منه الموظف المختص أن يذهب ليحضر شهادة بأنَّه على قيد الحياة لكي تكون حاضرة في الملف عند زيارة المدققين الماليين من الوزارة، وذلك لكي يستلم راتب الضمان الاجتماعي الذي يصرف له شهريًا من الحكومة على الرغم من حضوره شخصياً للوزارة المعنية.

هناك بعض المسؤولين من يعتقد أنَّ هذه التعقيدات توفر المال العام، وهذه نظرة ضيقة من البعض وتعبّر عن الحسد وسياسة الانتقام من الفقراء والمحتاجين الذين أصبحت خيارهم هو ما تجود به الحكومة الرشيدة فقط والتي تهدف إلى توفير الحياة الكريمة لأبناء هذا الوطن الغالي منذ فجر السبعين من القرن الماضي وحتى هذا اليوم، على الرغم من الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم طوال السنوات الماضية.

وفي الختام.. لقد حان الوقت للوزراء والوكلاء وكل من له علاقة بخدمة المُواطن وتم تكليفه بذلك، لتجنب سياسة الأبواب المغلقة، وضرورة تلمس احتياجات المواطنين والاستماع إليهم مباشرة بدون حواجز، وعلى الجميع يدرك أنَّ الوظيفة والمسؤولية تكليف قبل أن تكون تشريفاً؛ فخدمة المحتاج والمراجع واجب مقدس، كما أكد ذلك جلالة السلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- في أكثر من مرة خلال العامين الماضيين.

** أكاديمي وباحث مختص في الاتصال الجماهيري